الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } * { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

الآيات التي تقدّمت في وصف هذا الصنف من الناس - الذي قلنا إنّه يوجد في كلّ أمّة وملّة وفي كلّ عصر - كانت عامّة تصوِّر حال أفراده في كلِّ زمان ومكان، وكان أسلوبها ظاهراً في العموم كقوله: { يُخَادِعُونَ } إلخ، وقوله: وإذا قيل لهم كذا، قالوا كيت وكيت. وأمّا قوله تعالى:

{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } الآية، فهو وصف قد يختصّ ببعض أفراد هذا الصنف ممّن كان في عصر التنزيل، جاء بعد الأوصاف العامة، وحُكي بصيغة الماضي، ليكون كالتصريح بتوبيخ تلك الفئة من هذا الصنف، التي بلغت من التهتّك في النفاق، والفساد في الأخلاق؛ أن تظهر بوجهين، وتتكلّم بلسانين، وما بلغ كلّ أفراد الصنف هذا المبلغ من الفساد والضعف.

ولهذه الخصوصيّة في الآية قال بعض الواهمين: إنّ جميع تلك الآيات في منافقي ذلك العصر - وقد مرّ تفنيده فلا نُعيده. على أنّ هذه الفئة أيضاً توجد في كلِّ عصر وزمان يكون فيه لأهل الحقّ قوّة وسلطان، والحكاية عنها بصيغة الماضي والواقع لا تنافي ذلك؛ لأنّ " إذا " تدلّ على المستقبل، فمعنى الفعل مستقبل، وإنّما اختيرت صيغة الماضي لتوبيخ أولئك الأفراد، وإيذانهم بأنّ بضاعة النفاق والمداجاة، لا تروج في سوق المؤمنين لأنّها مزجاة، وأنّ إستهزاءهم مردود إليهم، ووباله عائد عليهم.

كان أولئك النفر يُدهنون في دينهم، فإذا لقوا المؤمنين قالوا آمنّا بما أنتم به مؤمنون، { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } من دعاة الفتنة وعمّال الإفساد وأنصار الباطل، الذين يصدّون عن سبيل الحقّ بما يقيمون أمامه من عقبات الوساوس والأوهام، وما يلقون فيه من أشواك المعايب وتضاريس المذامّ، وقال مفسّرنا (الجلال): إنّهم الرؤساء، والصواب ما قلنا، وكم من رئيس مغمول، لما في نفسه من الضعف والخمول، لا ينصر اعتقاده، وإن كان معترفاً بأنّ فيه رشاده، وفي عزّته عزّه وإسعاده. وكم من مرؤوس شديد العزيمة؛ قويّ الشكيمة، يكون له في نصر ملّته، والمدافعة عن أمّته، ما يعجز عنه الرؤساء، ولا يأتي على أيدي الأمراء.
وللذبابة في الجرح الممدّ يدٌ   تنال ما قصّرت عنهُ يد الأسد
{ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [البقرة: 14] أي إنّا معكم على عقيدتكم وعملكم، وإنّما نستهزئ بالمسلمين ودينهم، فكشف القرآن عن هذا التلوّن وهذه الذبذبة، وقابلهم عليها بما هدم بنيانهم، وفضح بهتانهم، فقال: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ... } أصل الإستهزاء: الإستخفاف وعدم العناية بالشيء في النفس، وإن أظهر المستخفّ الإستحسان والرضا تهكّماً. وهذا المعنى محالٌ على الله تعالى، والمحال بذاته يصحّ إطلاق لازمه، والمستهزئ بإنسان في نحو مدح لعلمه واستحسان لعمله مع اعتقاد قبحه، غير مبال به ولا معتن بعلمه ولا بعمله، حيث لم يرجعه عنه ولم يكرهه عليه، ويلزمه استرسال المستهزَأ به في عمله القبيح.

السابقالتالي
2 3 4