الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } * { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } * { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } * { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } * { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }

ذهب الذين ينظرون من القرآن في جمله وآياته مفكّكة منفصلا بعضها عن بعض، إلتماساً لسبب النزول في كلّ آية، أو جملة، أو كلمة، ولا ينظرون إليه في سياق جمله وكمال نظمه: إلى أنّ الأمر بالإستعانة في قوله تعالى: { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلٰوةِ } هو للاستعانة على أمر الآخرة والإستعداد لها، وأنّ المراد بالصبر فيه، الصبر عن المعاصي وحظوظ النفس - واعتمده البيضاوي وغيره - أو على الطاعات، وبهذا صرّح الجلال، وقد أورد قوله الأستاذ الإمام، وسأل الله تعالى الصبر على احتمال مثل هذا الكلام. والتحقيق أنّه عامّ في كلّ عملٍ نفسي أو بدني، أو ترك يشقّ على النفس، كما يدلّ عليه حذف متعلّقه، والمعنى: إستعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة، بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عزّ وجلّ، وتصغر بمناجاته فيها كلّ المشاقّ وأعمّها المصائب المذكورة في الآيات بعده، ولا سيّما الأعمال العامّة النفع كالجهاد المشار إليه في الآية التالية. وقد بيّن شيخنا أهمّ مواضعه التي يدلّ عليها السياق، مع بيان التناسب بين الآيات، ووجه الاتّصال بما مثاله موضّحًا:

ذكر الله تعالى افتتان الناس بتحويل القبلة، وتقدّم شرح ما دلّت عليه الآيات من عظم أمر تلك الفتنة، وإزالة شبه الفاتنين والمفتونين، وإقامة الحجج على المشاغبين، وحكم التحويل وفوائده للمؤمنين - ومنها إتمام النعمة، والبشارة بالإستيلاء على مكّة - وكون ذلك طريقاً للهداية، لما في الفتن من التمحيص الذي يتميّز به المؤمن الصادق، من المسلم المنافق، فهي تظهر الثابت على الحقّ المطمئن به، وتفضح المنافق المرائي فيه، بما تظهر من زلزاله واضطرابه فيما لديه، أو إنقلابه ناكصاً على عقبيه، ثمّ شبّه هذه النعمة التامّة بالنعمة الكبرى، وهي إرسال الرسول فيهم، يعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، وفي ذلك من التثبيت في مقاومة الفتنة، وتأكيد أمر القبلة، ما يليق بتلك الحالة. وقفّى ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم؛ للإيذان بأنّ تحويل القبلة الذي صوّره السفهاء من الناس بصورة النقمة هو في نفسه أجلّ مِنّة وأكبر نعمة.

لا جرم أنّ تلك النعم - التي يجب ذكرها وشكرها للمنعم جلّ شأنه - كانت تقرن بضروب من البلاء وأنواع من المصائب، أكبرها ما يلاقيه أهل الحقّ من مقاومة الباطل وأحزابه، وأصغرها ما لا يسلم منه أحد في ماله وأهله وأحبابه. أليس من النسب القريب بين الكلام، ومن كمال الإرشاد في هذا المقام، أن يَرِدَ بعد الأمر بالشكر، أمرٌ آخر بالصبر، وأن يعد الله المؤمنين بالجزاء على هذا كما وعدهم بالجزاء على ذاك؟ بلى، إنّ هذه الآيات متّصلة بما قبلها، متمّمة للإرشاد فيها، وقد هدى سبحانه بلطفه إلى علاج الداء قبل بيانه، فأمر بالاستعانة على ما يلاقيه المؤمنون بالصبر والصلاة، ووعد على ذلك بمعونته الإلهية، ثم أشعرهم بما يلاقونه في سبيل الحقّ والدعوة إلى الدين والمدافعة عنه وعن أنفسهم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7