الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } * { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } * { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }

احتجّ تعالى على أهل الكتاب بقوله:وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [البقرة: 144] وقوله:ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146] أي وإذا كان الأمر كذلك، فكلّ ما يأتي به عن الله فهو حقّ، فما بالهم يشاغبون في مسألة القبلة من الأحكام الفرعية خاصّة؟ فالكلام من قبيل إقامة الدليل بعد إيراد الدعوى، وليس اعتراضيّاً كما توهمّ بعضهم، ثم جاء بحجّة أخرى على أهل الكتاب وغيرهم ترغم أنوف المعارضين، وختم بعدها الأمر بتولية الوجوه نحو المسجد الحرام وتأكيده فقال: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا }. وقرأ ابن عامرٍ (مولاها) أي لكل أمّة من الأمم وجهة تولّيها في صلاتها، فلم تكن جهة من الجهات قبلة في كلّ ملّة بحيث تعدّ ركناً ثابتاً في الدين المطلق كتوحيد الله تعالى والإيمان بالبعث والجزاء، فإبراهيم وإسماعيل كانا يولّيان الكعبة، وكان بنو إسرائيل يستقبلون صخرة بيت المقدس، وترك النصارى ذلك إلى استقبال المشرق، وكان الأنبياء المتقدّمون يستقبلون جهاتٍ أخرى، فإذا كان الأمر كذلك ولم تكن جهة معيّنة ركناً ثابتاً في الأديان، فأي شبهة من العقل أو من تقاليد الملل على فتنة المشاغبين في أمر القبلة؟ وأي وجه لما أظهروه من الشبهة والحيرة، وزجّوا أنفسهم فيه من الغمّة، حتّى جعلوه مسوغاً للطعن في النبوّة والتشريع؟ وسيأتي إيضاح لهذه الحجّة في تفسير قوله تعالى:لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } [البقرة: 177] إلخ.

وإذا لم تكن مسألة القبلة المعيّنة من أصول الدين ولا من مخّه وجوهره الذي لا يتغيّر، بل كانت ولا تزال من الفروع التي تختلف باختلاف حال الأمم، فالواجب فيها الاتّباع المحض، والتسليم لأمر الوحي، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس كما هو الشأن في أمثالها من الفروع المأخوذة بالتسليم، كعدد الركعات وكون الركوع مرّة والسجود مرّتين في كلّ ركعة، فكيف وقد ظهرت؟ { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } أي ابتدروا كلّ نوعٍ من أنواع الخير بالعمل، وليحرص كل منكم على سبق غيره إليه باتّباع الإمام المرشد لا باتّباع الهوى. وهذا الأمر عامّ موجّه إلى أمّة الدعوة لا خاصّ بالمؤمنين المستجيبين لله والرسول { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } ذكر الجزاء يوم البعث بعد الأمر باستباق الخيرات؛ ليفيد أنّ الجزاء إنّما يكون على فعل الخيرات أو تركها، لا على الكون في بلد كذا أو جهة كذا، أي ففي أية جهةٍ وأي مكان تقيمون فالله تعالى يأتي بكم ويجمعكم ليوم الحساب، إذ البلاد والجهات لا شأن لها في أمر الدين لذاتها، وإنّما الشأن لعمل البرّ واستباق الخيرات { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه الإتيان بالناس مهما بعدت بينهم المسافات، وتناءت بهم الديار والجهات، فالتصريح بالقدرة تذكير بالدليل على الدعوى، والأمر بالخيرات هنا بعد بيان اختلاف الملل في القبلة: إجمال يفصله ذكر أنواع البرّ في آية

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9