الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

كان أنبياء بني إسرائيل يصلّون إلى بيت المقدس، وكانت صخرة المسجد الأقصى المعروفة هي قبلتهم، وقد صلّى النبي والمسلمون إليها زمناً، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتشوّف لاستقبال الكعبة، ويتمنّى لو حوّل الله القبلة إليها، بل كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة في مكّة، فيصلّي في جهة الجنوب مستقبلا للشمال، فلمّا هاجر منها إلى المدينة تعذّر هذا الجمع؛ فتوجّه إلى الله تعالى بجعل الكعبة هي القبلة، فأمره الله بذلك كما يأتي تفصيله في الآيات الآتية. وقد ابتدأ الكلام في هذه المسألة ببيان ما يقع من إعتراض اليهود وغيرهم على التحويل، وإخبار الله نبيّه والمؤمنين به قبل وقوعه، وتلقينهم الحجّة البالغة عليه، والحكمة السديدة فيه، ويتضمّن هذا بيان سرّ من أسرار الدين وقاعدة عظيمة من قواعد الإيمان كان أهل الكتاب في غفلة عنها وجهل بها، فهذه الآيات متّصلة بما قبلها في كونها محاجّة لأهل الكتاب في أمر الدين لإمالتهم عن التقليد الأعمى فيه، والجمود على ظواهره من غير تفقّه فيه، ولا نفوذ إلى أسراره وحكمه التي لم تشرع الأحكام إلاّ لأجلها. قال عزّ وجلّ:

{ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } السفه والسفاهة: الاضطراب في الرأي والفكر أو الأخلاق. يقال: سفه حلمه ورأيه ونفسه، ومنه: زمام سفيه، أي: مضطرب لمرح الناقة ومنازعتها إيّاه. واضطراب الحلم - العقل - والرأي: جهل وطيش، واضطراب الأخلاق: فساد فيها لعدم رسوخ ملكة الفضيلة. قال البيضاوي في تفسير السفهاء وأحسن ما شاء: هم الذين خفّت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن النظر. يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين. وفائدة تقديم الأخبار: توطين النفس وإعداد الجواب، اهـ. وولاّه عن الشيء صرفه عنه، والاستفهام للإنكار والتعجّب. والمعنى: سيقول سفهاء الأحلام السخفاء: أي شيء جرى لهؤلاء المسلمين فحوّلهم وصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وهي قبلة النبيين من قبلهم؟ وهاك تفصيل الجواب:

ليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في مادتها وجوهرها، وليس لها منافع وخواص لا توجد في غيرها، ولا هيكل سليمان في نفسه من حيث هو حجر وطين أفضل من سائر الأبنية، وكذلك يقال في الكعبة والبيت الحرام كما تقدّم في تفسير:وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ } [البقرة: 127] وإنّما يجعل الله للناس قبلة، لتكون جامعة لهم في عبادتهم إلى آخر ما تقدّم شرحه في تفسيروَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة: 115] وفي الكلام على الكعبة والحجّ، ولكن سفهاء الأحلام من أهل الجمود والمقلّدين لهم، يظنّون أنّ القبلة أصل في الدين من حيث هي الصخرة المعيّنة أو البناء المعيّن، ولذلك كانت الحجّة التي لقّنها الله لنبيّه في الردّ على السفهاء الجاهلين لهذه الحكمة { قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } أي: إنّ الجهات كلّها لله تعالى لا فضل لجهة منها بذاتها على جهة، وأنّ لله أن يخصّص منها ما شاء فيجعله قبلة لمن يشاء، وهو الذي { يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو صراط الإعتدال في الأفكار والأخلاق والأعمال كما يبيّن في الآية الآتية.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9