الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } * { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } * { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

هذا ضرب آخر من محاجة أهل الكتاب، جار على نسق سابقه مؤتلف معه، متصل به غير منقطع، ولا نازل في واقعة خاصّة للرد على كلمات قالها اليهود كما ذهب إليه (الجلال) وغيره، إذ قالوا: إن اليهود قالوا: يجب أن يكون جميع الناس تابعين لنا في الدين؛ لأن الأنبياء منّا والشريّعة نزلت علينا، ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع. نعم، لا ننكر صدور هذا القول من اليهود فإنّهم كانوا يقولون مثله دائماً، وإنّما نقول إن الآيات متناسقة مع ما قبلها، متمّمة له، مزيلة لشبهات كانت فاشية في القوم في كل مكان، لا خاصّة برد قول لأحد يهود الحجاز.

الآيات السابقة بيّنت: أن الملّة الصحيحة، هي ملّة إبراهيم، وهي لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنّما هي صبغة الله التي لا صنع لأحد فيها، بل هي بريئة من اصطلاحات الناس وتقاليد الرؤساء، فهي الجديرة بالاتباع، ولكن التقاليد والأوضاع قد طمستها بعد ما جرى الأنبياء عليها، وحلّت تلك التقاليد محلّها، حتّى ذابت هي فيها وخفيت فلم تعد تعرف؛ ولذلك جاء محمّد صلى الله عليه وسلم ببيانها، ودعوة الناس إلى الرجوع إليها، فبيّن تعالى بتلك المحاجّة الحق الذي يجب التعويل عليه، ثم أخذ في هذه الآيات يزيل الموانع ويبطل الشبهات المعترضة في طريق ذلك الحق، فأمر نبيّه بما ترى من الحجّة في قوله:

{ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } بدعواكم الإختصاص بالقرب منه وزعمكم أنّكم أبناء الله وأحباؤه، وأنّه لن يدخل الجنّة إلاّ مَنْ كان هوداً أو نصارى، ومن أين جائكم هذا القرب والإختصاص بالله دوننا { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } ورب العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة: هو الخالق وهم المخلوقون، وهو الرب وهم المربوبون، وإنّما يتفاضلون بالأعمال البدنيّة والنفسيّة { وَلَنَآ أَعْمَالُنَا } التي تختص آثارها بنا، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر { وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } كذلك، وروح الأعمال كلّها الإخلاص، فهو وحده الذي يجعلها مقرّبة لصاحبها من الله تعالى ووسيلة لمرضاته { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } من دونكم، فإنّكم اتكلتم على أنسابكم وأحسابكم، واغتررتم بما كان من صلاح آبائكم وأجدادكم، واتخذتم لكم وسطاء وشفعاء منهم، تعتمدون على جاههم، مع انحرافكم عن صراطهم، وما هو إلاّ التقرّب إلى الله تعالى بإحسان الأعمال، مع الإخلاص المبني على صدق الإيمان، وهو ما ندعوكم إليه الآن. فكيف تزعمون أن الإدلاء إلى ذلك السلف الصالح بالنسب، والتوسل إليهم بالقول هو الذي ينفع عند الله تعالى، وأن الإستقامة على صراطهم المستقيم والتوسل إلى الله تعالى بما كانوا يتوسّلون إليه به من صالح الأعمال والإخلاص في القلب لا ينفع ولا يفيد، وما كان سلفكم مرضيّاً عند الله تعالى إلاّ به؟ هل كان إبراهيم مقرّباً من الله تعالى بأبيه آزر المشرك، أم كان قربه وفضله بإخلاصه وإسلام قلبه إلى ربّه؟ فكما جعل الله النبوّة في إبراهيم وجعله إماماً للناس في الإسلام والإخلاص، جعلها كذلك في محمّد صلى الله عليه وسلم، فإذا صحّ لكم إنكار نبوّة محمّد لأنه لم يكن في سلفه العرب أنبياء، فأنكروا نبوّة إبراهيم، فإنّ العلّة واحدة، فكيف لا يتّحد المعلول؟

وحاصل معنى الآية: إبطال معنى شبهة أهل الكتاب: إنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنّه لا ينجو مَنْ كان على غير طريقتهم، وإن أحسن في عمله وأخلص في قصده، وأنّهم هم الناجون الفائزون، وإن أساءوا عملاً ونيّة؛ لأن أنبياءهم هم الذين ينجونهم ويخلّصونهم بجاههم، فالفوز عندهم بعمل سلفهم، لا بصلاح أنفسهم ولا أعمالهم.

السابقالتالي
2 3 4 5