الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } * { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } * { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

الكلام في هذه الآيات متّصل بما سبقه من إبتداء قوله:وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [البقرة: 124] فقد ذكر أنّه تعالى ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمّهن، وأنّه جعله إماماً للناس وجعل من ذريته أئمّة، وأنّه عهد إليه ببناء بيته وتطهيره لعبادته ففعل، وكان يومئذ يدعو بما علم منه ما هي ملّته، وإن هي إلاّ توحيد الله وإسلام القلب إليه والإخلاص له بالأعمال، وتعظيم البيت بتطهيره وإقامة المناسك فيه عن بصيرة بأسرارها تجعل المعنى المتصوّر، كالمحسوس المبصر. ثم قال بعد هذا: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } أي امتهنها واستخفّ بها، كأنّه تعالى يقول: هذه هي ملّة أبيكم إبراهيم، الذي تنتسبون إليه وتفخرون به، فكيف ترغبون عنها، وتنتحلون لأنفسكم أولياء لا يملكون لكم نفعاً ولا ضرّاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، لا بالذات ولا بالوساطة.

قال: { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا } بهذه الملّة، فجعلناه إماماً للناس وجعلنا في ذريّته الكتاب والنبوّة { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } لجوار الله بعمله بهذه الملّة، ودعوته إليها وإرشاده الناس بها. فملّة جعلت لإبراهيم هذه المكانة عند الله تعالى في الدنيا والآخرة، لا يرغب عنها إلاّ مَنْ سفه نفسه، وجنى على إدراك عقله فاستحبّ العمى على الهدى، وإن خسر الآخرة والأولى.

ومن مباحث اللفظ في الآية: قول (الجلال) في تفسير { سَفِهَ نَفْسَهُ } أي جهل أنها مخلوقة لله. قال الأستاذ الإمام: ولم يقل بهذا أحد من المفسّرين الذين يعتدّ بهم، والسياق لا يقتضيه، وسفه يستعمل لازماً ومتعدّياً، ومعنى المتعدّي استخف وامتهن وأخّره (الجلال) وهو الراجح. وفي الكشاف أن { نَفْسَهُ } تميّيز لفاعل { سَفِهَ } ولا يمنع من ذلك الإضافة إلى الضمير؛ لأنّه تعريف لفظي، والمعنى: إنّه لا يرغب عن ذلك إلاّ مَنْ سفهت نفسه، أي حمقت، وقدّم هذا القول كأنّه رجّحه على ما قبله اهـ.

وأقول: سفه بالضم - كضخم - سفاهة صار سفيها، وسفه بالكسر - كتعب - سفها هو الذي قيل: إنّه يستعمل لازماً ومتعدياً، وقيل: بل هو لازم دائماً، وأن أصل سفه نفسه بالرفع، فنصب على التمييز كسفه نفساً، فأضيفت النفس إلى ضميره كما تقدّم، ومثله غبن رأيه. وسيأتي توضيح معناه في تفسيرسَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ } [البقرة: 142].

{ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من آياته ونصب له من بيّناته، فأجاب الدعوة و { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } و (الجلال) قدّر كلمة " اذكر " متعلّقاً للظرف " إذ " كما هي عادته في مثله، وإن وجد في الكلام ما يتعلّق به، كقوله هنا: " اصطفيناه " وقد نشأ إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوم يعبدون الكواكب ويتّخذون الأصنام، فأراه الله حجّته، وأنار بصيرته، فنفذت أشعتها من العالم الشمسي، وأدركت أن لجميع العالمين ربّاً واحداً منفرداً بالخلق والتدبير، وحاجّه قومه فبهرهم ببرهانه، وأفحمهم ببيانه، وقد قصّ الله تعالى خبره معهم في سورة الأنعام، وسيأتي تفسير الآيات إن شاء الله تعالى.

السابقالتالي
2 3 4