الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } * { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }

تنطق هذه الآيات بأنّ ما عليه هذا الصنف من الغرور بما عنده من التقاليد، قد سوّل له الباطل وزيّن له سوء عمله فرآه حسناً، وشوّه في نظره كلّ حقٍّ لم يأتِهِ على لسان رؤسائه ومقلَّديه بنصِّه التفصيليّ، فهو يراه قبيحاً، وقد صوّرت الآيات هذا الغرور بما حكته عن بعض أفراده وهو: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بما تصدّون عن سبيل الله مَنْ آمن وتبغونها عوجاء، وتنفّرون الناس عن اتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به من الإصلاح، الذي يجتثّ أصول الفساد، ويصطلم جراثيم الأداد، ويُحيي ما أماتته البدع من إرشاد الدين، ويقيم ما قوّضته التقاليد من سنن المرسلين { قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } بالتمسّك بما استنبطه الرؤساء، وما كان عليه الأحبار والعرفاء، من تعاليم الأنبياء، فإنّهم أعرف بسنّتهم، وأدرى بطريقتهم، فكيف ندع ما تلقّيناه منهم، ونذر ما يؤثره آباؤنا وشيوخنا عنهم، ونأخذ بشيء جديد، وطارف ليس له تليد؟.

هكذا شأن كلّ مفسد: يدّعي أنّه مصلحٌ في نفس إفساده، فإنْ كان على بيّنة من إفساده عارفاً أنّه مضلٌّ - وإنّما يكون كذلك إذا كان إفساده لغيره لعداوة منه له - فإنّما يدّعي ذلك لتبرئة نفسه من وصمة الإفساد بالتمويه والمواربة، وإن كان مسوقاً إلى الإفساد بسوء التقليد الأعمى الذي لا ميزان فيه لمعرفة الإصلاح من الإفساد إلاّ الثقة بالرؤساء المقلَّدين، فهو يدّعيه عن إعتقاد ولا يريد أن يفهم غير ما تلقّاه عنهم، وإن كان أثر تقليدهم، والسير على طريقتهم مفسداً للأمّة في الواقع ونفس الأمر؛ لأنّ الوجود والحقيقة الواقعة لا قيمة لهما ولا اعتبار في نظر المقلّدين، بل هم لا يعرفون مناشيء الفساد ومصادر الخلل، ولا مزالق الزلل؛ لأنّهم عطّلوا نظرهم الذي يميّز ذلك، وأرادوا أن يوقعوا غيرهم بهذه المهالك، بصدّهم عن سبيل الإسلام، الداعي إلى الوحدة والالتئام، فكان ذلك منهم دعاءً إلى الفرقة والانفصام، والثبات على عبادة الملائكة أو البشر أو الأصنام. وأيّ إفساد في الأرض أعظم من التنفير عن اتّباع الحقّ، وعن الإعتصام بدين فيه سعادة الدارين، والأرضُ إنّما تفسد وتصلح بأهلها؟ ولذلك قال تعالى: { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } فابتدأ الكلام المؤكّد لإثبات إفسادهم بكلمة " ألا " التي يراد بها التنبيه والإيقاظ وتوجيه النظر، وتدلّ على اهتمام المتكلّم بما يحكيه بعدها { وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } بأنّ هذا إفساد غُرِز في طبائعهم، بما تمكّن فيها من الشبهة بتقليد رؤسائهم الذين أُشربوا عظمتهم. وهذا دليل على أنّهم لم يكونوا معاندين ولا مرائين، وأنّهم على اعتقاد ضعيف لا يشهد له العمل كما تقدّم في تفسير آيةيُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } [البقرة: 9].

وإذا كانت الآيات في وصف طائفة من الناس توجد في كل أمّة - كما قدّمنا - فليحاسب بها نفسه كلّ مسلم يعتقد أنّ القرآن إمامه، وأنّ فيه هدىً له، فإنّها حجّة على كثير ممّن يدّعون الإسلام بالقول ويعملون بخلاف ما جاء به، ويتّبعون غير سبيله.

السابقالتالي
2 3 4 5