الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ }

ذكر الله تعالى العرب أوّلاً بنعمته عليهم بهذا البيت: أن جعله مثابة للناس وأمناً، وبدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لبلد البيت واستجابة الله تعالى دعاءه إذ جعله بلداً آمناً تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتّع أهله بها، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنويّة، فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركّع السجود؛ لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه: إنّه لا يليق أن يعبد فيه غيره. وبتطهيره لأجل الطواف والإعتكاف والصلاة: أنّه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة، وعن سائر الأعمال الذميمة، كطواف العريان وكانوا يفعلونه.

ثم ذكرهم بعد هذا بأنّ إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل، وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق، ويجذبهم إلى الإقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، فإنّ قريشاً كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحقّ، وتدّعي أنّها على ملّة إبراهيم، ولذلك كانت ترى أنّها أهدى من الفرس والروم، وسائر العرب تبع لقريش.

قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ } ظاهر في أنّهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنيّة، ولكن القصّاصين ومَنْ تبعهم من المفسّرين، جاءونا من ذلك بغير ما قصّه الله تعالى علينا وتفنّنوا في رواياتهم عن قدم البيت، وعن حج آدم ومَنْ بعده من الأنبياء إليه وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان، ثم نزوله مرّة أخرى، وهذه الروايات يناقض، أو يعارض بعضها بعضاً، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها، وفاسدة في عدم صحّة أسانيدها: وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن، ولم يستح بعض الناس من إدخالها في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو بريء منها. ومن ذلك زعمهم أن الكعبة نزلت من السماء في زمن آدم، ووصفهم حج آدم إليها وتعارفه بحوّاء في عرفة بعد أن كانت قد ضلّت عنه بعد هبوطهما من الجنّة، وحاولوا تأكيد ذلك بتزوير قبر لها في جدّة، وزعمهم أنّها هبطت مرّة أخرى إلى الأرض بعد ارتفاعها بسبب الطوفان، وحلّيت بالحجر الأسود، وأن هذا الحجر كان ياقوتة بيضاء - وقيل زمرّدة - من يواقيت الجنّة أو زمرّدها، وأنّها كانت مودعة في باطن جبل أبي قبيس فتمخّض الجبل فولدها، وأن الحجر إنّما أسودّ لملامسة النساء الحيّض له، وقيل لاستلام المذنبين إياه. وكل هذه الروايات خرافات إسرائيليّة بثّها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوّهوا عليهم دينهم وينفّروا أهل الكتاب منه.

الأستاذ الإمام: لو كان أولئك القصّاصون يعرفون الماس لقالوا إن الحجر الأسود منه؛ لأنّه أبهج الجواهر منظراً وأكثرها بهاء، وقد أراد هؤلاء أن يزيّنوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه، ولكنّها إذا راقت للبله من العامة، فإنّها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف هذا الضرب من الشرف المعنوي، هو ما شرّفه الله تعالى، فشرف هذا البيت إنّما هو بتسمية الله تعالى إيّاه بيته، وجعله موضعاً لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدّم، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، ولا بأنّه من عالم الضياء.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7