الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } * { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } معطوف على ما قبله والمعنى واذكر أيّها الرسول - أو أيّها الناس - إذ جعلنا البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، أي ذا أمن، بأن خلقنا - بما لنا من القدرة - في قلوب الناس من الميل إلى حَجّه والرحلة إليه المرّة بعد المرّة من كلّ فج وصوب ما كان به مثابة لهم، ومن احترامه وتعظيمه وعدم سفك دم فيه ما كان به أمناً. ولفظ " البيت " من الأعلام الغالبة على بيت الله الحرام بمكّة، كالنجم على الثريا، كان كلّ عربي يفهم هذا من إطلاق الكلمة.

يذكّر الله تعالى العرب بهذه النعمة، أو النعم العظيمة وهي جعل البيت الحرام مرجعاً للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه، ومأمناً لهم في تلك البلاد بلاد المخاوف التي يتخطّف الناس فيها من كل جانب، وبدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للبيت وأهله المؤمنين. وفي هذا التذكير ما فيه من الفائدة في تقرير دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبيان بنائها على أصول ملّة إبراهيم، الذي تحترمه قريش وغيرها من العرب، وقد اختار المثابة على نحو القصد والمزار؛ لأن لفظ المثابة يتضمّن هذا وزيادة فإنّه لا يقال: ثاب المرء إلى الشيء، إلاّ إذا كان قصده أوّلاً ثم رجع إليه. ولمّا كان البيت معبداً وشعاراً عاماً، كان الناس الذين يدينون بزيارته، والقصد إليه للعبادة يشتاقون الرجوع إليه، فمن سهل عليه أن يثوب إليه فعل، ومَنْ لم يتمكن من الرجوع إليه بجثمانه، رجع إليه بقلبه ووجدانه. وكونه مثابة للناس أمر معروف في الجاهليّة والإسلام، وهو يصدق برجوع بعض زائريه إليه، وحنين غيرهم وتمنّيهم له عند عجزهم عنه. وكذلك جعله أمناً معروف عندهم فقد كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يزعجه، على ما هو معروف عندهم من حب الإنتقام والتفاخر بأخذ الثأر.

الأستاذ الإمام: قد يقال: ما وجه المنّة على العرب عامة بكون البيت أمناً للناس، والفائدة فيه إنّما هي للجناة والضعفاء الذين لا يقدرون على المدافعة عن أنفسهم؟ والجواب عن هذا: أنّه ما من قويّ إلاّ ويوشك أن يضطر في يوم من الأيام إلى مفزع يلجأ إليه لدفع عدو أقوى منه، أو لهدنة يصطلح في غضونها مع خصم يرى سلمه خيرا من حربه، وولاءه أولى من عدائه، فبلاد كلّها أخطار ومخاوف لا راحة فيها لأحد. وقد بيّن الله المنّة على العرب إذ جعل لهم مكاناً آمناً بقوله في سورة العنكبوت:أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } [العنكبوت: 67].

قال تعالى: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قرأ نافع وابن عامر { واتخذوا } بفتح الخاء، على أنّه فعل ماض معطوف على " جعلنا " والباقون بكسرها، على أنّه أمر، أي وقلنا اتخذوا، أو قائلين اتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى.

السابقالتالي
2 3 4 5