الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ }

أقول: بعد أن أقام الله الحجّة على أهل الكتاب وبيّن شؤونهم في الكفر بالنبيّ الذي كانوا ينتظرونه لبشارة رسلهم به، وشؤونهم في التلاعب بدينهم وشؤونهم مع المؤمنين، بيّن في هذه الآيات وما بعدها ما يستند إليه الإسلام ونبي الإسلام من أصل ونسب يجلّه أهل الكتاب والعرب جميعاً وهو ملّة إبراهيم ونسبه، فهو في هذا السياق يبيّن لأهل الكتاب - ولا سيّما اليهود المحتكرين للوحي في قومهم والمفضّلين لأنفسهم على العرب بنسبهم - أنّ هذا لو كان حجّة لما قامت هذه الحجّة على محمّد صلى الله عليه وسلم وقومه، إذ الملّة في الأصل واحدة والنسب واحد، ولكنّهم كفروا النعمتين بما تقدّم ذكره من أعمالهم، فجاء النبيّ الموعود به لإصلاح حالهم وحال غيرهم. وسيأتي قوله تعالى في هذا السياق:يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146] وجرى شيخنا في الدرس على طيته في التناسب بين هذا السياق وما قبله فقال ما مثاله:

كان الكلام في أوّل السورة إلى هذه الآية بأسلوب واحد في سياق واحد: ذكر حقيّة الكتاب وكونه من نصوع البرهان بحيث يدفع ريب المرتابين أن يدنو منه أو يتسامى إليه، ثم ذكر أصناف الناس في أمر الإيمان به وعدم الإيمان به. وأطال الحجاج والمناظرة في خطاب أهل الكتاب خاصّة، لما تقدّم من أنّهم كانوا موضع الرجاء في المبادرة إلى الإيمان بالنبيّ وما جاء به؛ لأنّه وافقهم في أصل الدين وصدق أنبياءهم وكتبهم، وذكّرهم بما نسوا، وعلّمهم ما جهلوا، وأصلح لهم ما حرّفوا، وزادهم معرفة بأسرار الدين وحكمته، كما أنّهم كانوا في موضع الشبهة عند المشركين والمنافقين بما كفروا، وفي موضع الحجّة عليهم بما آمنوا، قال تعالى في الإحتجاج على المشركين:أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 197] وقد جاءت محاجة أهل الكتاب على طريقة الإطناب، لما كانوا عليه من جمود القرائح والبعد عن البلاغة، كما حكى عنهم أنّهم قالوا: " قلوبنا غلف " ومن فساد الأذهان بالتعوّد على التأويل والتحريف، فكان يبدأ لهم المعنى ويعاد، ويساق إليهم القول بطرق بيّنة، ويؤكّد بضروب من التأكيد، تبعد به عن قبول التأويل والتحويل، وكان ممّا حجوا به، التذكير بحال سلفهم الأنبياء وبحالهم معهم من عصيانهم وإيذائهم بل قتلهم في عهدهم، والغرور بانتظار شفاعتهم والإستغناء بها من بعدهم.

ثم إن الكلام في هذه الآية { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } وما بعدها موجّه إلى مشركي العرب، ووجه الاتصال بينها وبين ما قبلها أن ذلك كان يتضمّن الإحتجاج على أهل الكتاب بسلفهم الصالح، وهذا يتضمّن الإحتجاج على مشركي قريش وأمثالهم بسلفهم الصالح، فإنّهم ينتسبون إلى إسماعيل وإبراهيم ويفتخرون بأنّهما بنيا لهم الكعبة معبدهم الأكبر: وكانوا في عهد التنزيل قد اختلطوا بالأمم المجاورة التي تعرف لهم هذا النسب.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7