الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } * { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }

الصلة بين قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } الآية وبين ما قبلها، واضحة جليّة، وهي: إنّ هذه جاءت في موضع الإستدراك على ما سبقها من إيئاس النبيّ والمؤمنين من أهل الكتاب. فقد علمنا أن آية:وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ } [البقرة: 120] قد سلّت ما كان يخالج النفوس من الرجاء بإيمان أهل الكتاب كلّهم، وهذه الآية تنطق بأن منهم مَنْ يُرجى إيمانه، وهم الذين وصفهم بما هو علّة الرجاء ومناط الأمل، وهو تلاوة كتابهم حقّ تلاوته، وعدم الجمود على الظواهر والتقاليد، والإكتفاء بالأماني والظنون. كأنّه يقول: إن كانت نفسك تحدّثك بأن أهل الكتاب أقرب إلى الإيمان بما جئت به؛ لأنّه يشبه ما عندهم ويصدّق أنبياءهم وأصول شرائعهم، من حيث يقتلّع جذور دين الوثنيين ويمحوه محواً، فيكون الوثنيّون أجدر من أهل الكتاب بمعاندتك ومجاحدتك، فاعلم: إنّ هؤلاء قد ألحقوا بدينهم من التقاليد والمخترعات، وألصقوا به من البدع والعادات، ما غرّهم في دينهم بغير فهم، وجعلهم يتعصّبون له بغير عقل، فكانوا بذلك أبعد عن حقيقة الإيمان من أولئك الذين يعبدون الأوثان، وذلك أنّهم اتخذوا الدين جنسيّة، فليس لهم منه إلاّ الجمود على عادات صارت مميّزة للمنتسبين إليه. ولكن لا يزال فيهم نفر يرجى منهم تدبّر الشيء والتمييز بين الحق والباطل وهم: { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } وهم: { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } أي يفهمون أسراره ويفقهون حكمة تشريعه، وفائدة نوط التكليف به، لا يتقيّدون في ذلك بآراء مَنْ سبقهم فيه، ولا بتحريفهم كلمه عن مواضعه { أُوْلَـٰئِكَ } هم الذين يقدّرون ما جئت به من الترقّي في الدين، وإقامة قواعده على الأساس المتين، و { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بعد العلم بأنّه الحق الذي يزيل ما بينهم من الخلاف ويهديهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة { وَمن يَكْفُرْ بِهِ } من الرؤساء المعاندين والمقلّدين الجاهلين وهم الأكثرون، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } لهذه السعادة، المحرومون ممّا يكون للمؤمنين من المجد والسيادة، سواء كان كفرهم بتحريفه ليوافق مذاهبهم التقليديّة، أم بإهماله إكتفاء بقول علمائهم. ويجوز أن يكون الضمير في قوله: { بِهِ } للهدى الذي ذكر في الآيات السابقة.

الأستاذ الإمام: عبّر عن التدبّر والفهم بالتلاوة حق التلاوة؛ ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة التي يشترك فيها أهل الأهواء والبدع مع أهل العلم والفهم. والتعبير يشعر بأن أولئك الذين حكم بنفي رضاهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نفياً مؤكّداً. لا حظّ لهم من الكتاب إلاّ مجرّد التلاوة وتحريك اللسان بالألفاظ، لا يعقلون عقائده، ولا يتدبّرون حكمه ومواعظه، ولا يفقهون أحكامه وشرائعه؛ لأنّهم استغنوا عنه بتقليد بعض الرؤساء والإكتفاء بما يقولون، فلا عجب إذا أعرضوا عمّا جاء به النبيّ ولا ضرر في إعراضهم.

السابقالتالي
2 3 4