الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

هذا بيان لحالين آخرين من أحوال أهل الكتاب في غرورهم بدينهم، ما كان المسلمون قبل نزول الآيات يعرفونها: أمّا الأولى فما بيّنه تعالى بقوله: { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } وهو عطف على قوله:وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } [البقرة: 109] أي قالت اليهود: لن يدخل الجنّة إلاّ مَنْ كان هوداً، وقالت النصارى كذلك في أنفسهم، وهو إختصار بديع غير مخل. وهذه عقيدة الفريقين إلى اليوم ولا ينافي انسحاب حكمها على الآخرين، أنّ نفراً من الأوّلين قالوا ذلك بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يروى. وقد بيّن لنا تعالى أن هذا القول لا حجّة له في كتبهم المنزلة فقال: { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }. والأماني: جمع أمنية، وهي ما يتمنّاه المرء ولا يدركه. وهذا القول ناطق بأمنية واحدة ولكنّها تتضمن أماني متعددة هي لوازم لها، كنجاتهم من العذاب وكوقوع أعدائهم فيه وحرمانهم من النعيم؛ ولهذا ذكر الأماني بالجمع ولم يقل تلك أمنيتهم. وقد انفرد بهذا الوجه الأستاذ الإمام. وهناك وجوه أخرى، وهي أن الإشارة بـ { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } لقوله:مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } [البقرة: 105] الآية وقوله: { وَدَّ كَثِيرٌ } وقوله { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ } وقيل: إن في الكلام مضافاً محذوفاً، أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم، ثم طالبهم تعالى بالبرهان على دعواهم، فقرّر لنا قاعدة لا توجد في غير القرآن من الكتب السماويّة، وهي أنه لا يقبل من أحد قول لا دليل عليه، ولا يحكم لأحد بدعوى ينتحلها بغير برهان يؤيّدها، ذلك أن الأمم التي خوطبت بالكتب السالفة لم تكن مستعدة لإستقلال الفكر ومعرفة الأمور بأدلّتها وبراهينها؛ ولذلك اكتفى منهم بتقليد الأنبياء فيما يبلّغونهم، وإن لم يعرفوا برهانه، فهم مكلّفون أن يفعلوا ما يؤمرون، سواء عرفوا لماذا أُمروا أم لم يعرفوا، ولكن القرآن يخاطب مَنْ أنزل عليه بمثل قوله:قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف: 108]. وقد فسّروا البصيرة بالحجّة الواضحة، ويستدل على قدرة الله وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته بالآيات الكونيّة، وهي كثيرة جداً في القرآن، وبالأدلة النظريّة والعقليّة كقوله:لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] وغير ذلك، ويستدل على الأحكام بما يترتب عليها من نفي المضرّات والإفضاء إلى المنافع.

علّم القرآن، أهله أن يطالبوا الناس بالحجّة؛ لأنّه أقامهم على سواء المحجّة، وجدير بصاحب اليقين أن يطالب خصمه به ويدعوه إليه. وعلى هذا درج سلف هذه الأمّة الصالح، قالوا بالدليل وطالبوا بالدليل، ونهوا عن الأخذ بشيء من غير دليل. ثم جاء الخلف الطالح فحكم بالتقليد، وأمر بالتقليد، ونهى عن الإستدلال على غير صحّة التقليد، حتى كأنّ الإسلام خرج عن حدّه، أو انقلب إلى ضدّه.

السابقالتالي
2 3 4 5