الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

بيّن الله تعالى في الآية الأولى من هاتين الآيتين أنّ أهل الكتاب المتعصّبين لدينهم - من حيث هو جنسيّة لهم تقوم بها منافع جنسهم لم يكتفوا بكفرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والكيد له ونقض ما عاهدهم عليه حسداً له ولقومه على نعمة النبوّة، بل هم يزيدون على ذلك ما قصّه تعالى بقوله: { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } فهو بيان لما يضمرونه وما تكنّه صدورهم للمسلمين من الحسد على نعمة الإسلام التي عرفوا أنّها الحق وأن وراءها السعادة في الدارين، ولكنّهم شقّ عليهم أن يتبعوهم فتمنّوا أن يُحرموا هذه النعمة ويرجعوا كفّاراً كما كانوا، وذلك شأن الحاسد يتمنّى أن يسلب محسوده النعمة ولو لم تكن ضارة به، فكيف إذا كان يعلم أن تلك النعمة إذا تمّت وثبتت يكون من أثرها سيادة المحسود عليه وإدخاله تحت سلطانه، كما كان يتوقع علماء يهود في عصر التنزيل. وقد جاء هذا التنبيه تتمّة لقوله تعالى قبل آيات:مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة: 105] وقد بيّن الله لنا ما كان من محاولة أهل الكتاب وتحيّلهم على تشكيك المسلمين في دينهم، كقول بعضهم لبعض بأن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره لعلّ ضعفاء الإيمان يرجعون عن الإسلام إقتداءً بهم، كما سيأتي في سورة آل عمران، وفي هذه الآية وما بعدها إشارة إلى أن لذلك بعض الأثر في نفوس بعض المسلمين.

وفائدة هذا التنبيه أو التنبيهات: أن يعلم المسلمون أن ما يبدو من أهل الكتاب أحياناً من إلقاء الشبه على الإسلام وتشكيك المسلمين فيه إنّما هو مكر السوء يبعث عليه الحسد لا النصح الذي يبعث عليه الإعتقاد.

وقال: { حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } ليبيّن أن حسدهم لم يكن عن شبهة دينيّة أو غيرة على حق يعتقدونه، وإنّما هو خبث النفوس وفساد الأخلاق والجمود على الباطل، وإن ظهر لصاحبه الحق، ولذلك قفّاه بقوله: { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } أي بالآيات التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وبإنطباق ما يحفظون من بشارات كتبهم بنبي آخر الزمان عليه.

ثم أمر الله تعالى المؤمنين بأن يقابلوا هذا الحسد وما ينبعث عنه بما يليق بهم من محاسن الأخلاق فقال: { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ } ، ولم يقل: فاعفوا واصفحوا عنهم؛ لإرادة العموم، أي عاملوا جميع الناس بالصفح والعفو، فإنّ هذا هو اللائق بشأن المؤمنين المتّقين:ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63].

أقول: العفو: ترك العقاب على الذنبإِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً }

السابقالتالي
2 3 4