الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

أقول: هذا خطاب للمؤمنين في أمر له علاقة بما كان بينهم وبين اليهود فهو متعلّق بماضي السياق الخاص ببني إسرائيل، وبدء إنتقال منه إلى سياق مشترك بين المؤمنين واليهود والنصارى جميعاً في أمر الدين. و " راعنا " كلمة كانت تدور على ألسنة الصحابة في خطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. والمعنى المتبادر منها لغةً هو: راعنا سمعك، وهو كأرعنا سمعك، أي اسمع لنا ما نريد أن نسأل عنه ونراجعك القول فيه لنفهمه عنّك، أو راقبنا وأنتظر ما يكون من شأننا في حفظ ما تلقيه علينا وفهمه. قال في مجاز الأساس: " وراعيت الأمر: نظرت إلام يصير. وأنا أراعي فلاناً: أنظر ماذا يفعل، وأرعيته سمعي وأرعني سمعك وراعني سمعك " اهـ، ولكن الله تعالى نهى المؤمنين عن قول هذه الكلمة والمشهور في كتب التفسير: أنّ سبب ذلك هو أن اليهود سمعوها فافترصوها وصاروا يخاطبون بها النبيّ صلى الله عليه وسلم لاوين ألسنتهم بها لتوافق كلمة شتم بلسانهم العبراني، قيل: كانوا ينطقون بها " راعينا " وقيل: كانوا يريدون بتحريفها نسبته إلى الرعونة وفي سورة النساء:مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ } [النساء: 46] الآية.

الأستاذ الإمام: إنّ هذا النهي له صلة وارتباط بشأن اليهود لا محالة؛ لأنّ الكلام لا يزال في شؤونهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولكن هذا لا يستلزم أن يكون سبب النهي هو كون الكلمة تستعمل للشتم في العبرانيّة، ولا أقول بهذا إلاّ بنقل صحيح عمّن يعرف هذه اللغة، وللمفسّرين وجوه أخرى في تعليل النهي فعن مجاهد وغيره أنّ معنى الكلمة " خلاف " والمراد لا تخالفوه كما يفعل أهل الكتاب، ولكن اعترض على هذا الوجه بأن ليس له شاهد من اللغة. والمعروف في اللغة أن " راعنا " من المراعاة. وهي تقتضي المشاركة في الرعاية، أي أرعنا نرعك، وفي خطاب النبيّ بذلك من سوء الأدب ما هو ظاهر، فالنهي عنه تأديب كقوله تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } [الحجرات: 2] كأنّه يقول لا تكونوا كهؤلاء الغلاظ القلوب الذين قصصنا عليكم خبرهم، أو الذين عرفتم سوء أدبهم مع الأنبياء، بل اجمعوا بين الطاعة والأدب.

قال: وهاهنا وجه آخر وهو أنّه يقال في اللغة: راعى الحمار الحمر، إذا رعى معها، فيجوز أن اليهود كانوا يحرّفون الكلمة بصرفها إلى هذا المعنى، فنهى الله المسلمين عن هذه الكلمة وشنّع على اليهود بإظهار سوء قصدهم فيها. وقد رضوا بصرف اللفظ إلى هذا المعنى، وإن كان يتضمن أنّهم حمر؛ لأنّ السبّاب يسب نفسه كما يسب غيره فهو على حدّ قول القائل:

السابقالتالي
2 3 4