الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } * { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } * { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ } * { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

الكلام متصل بما قبله من ذكر تعلاّت اليهود وإعتذارهم عن الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من البيّنات والهدى. زعموا أنّهم مؤمنون بكتاب لا حاجة لهم بهداية في غيره. فاحتجّ عليهم بما ينقض دعواهم، وزعموا أنّهم ناجحون في الآخرة على كلّ حال؛ لأنّهم شعب الله وأبناؤه فأبطل زعمهم، ثم ذكر لهم تعلّة أخرى أغرب ممّا سبقها، وفنّدها كما فنّد ما قبلها، وهي: إنّ جبريل الذي ينزل بالوحي على النبيّ صلى الله عليه وسلم عدوّهم فلا يؤمنون بوحي يجيء هو به. وقد جاء في أسباب النزول روايات عنهم في ذلك. منها أن عبد الله بن صورياً من علمائهم سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال: هو جبريل، فزعم أنه عدو اليهود، وذكر من عداوته أنّه أنذرهم خراب بيت المقدس، فكان. ومنها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل مدراسهم فذكر جبريل، فقالوا: ذاك عدوّنا، يطلع محمداً على أسرارنا، وأنّه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلم، إلخ. وهذا القول هراء، وخطله بيّن، وإنّما عنى القرآن بذكره وردّه؛ لأنه مؤذن بتعنّتهم وعنادهم، وشاهد على فساد تصوّرهم وعدم تدبّرهم، ليعلم الذين كانوا ينتظرون ما يقول أهل الكتاب فيه أنه لا قيمة لأقوالهم، ولا اعتداد بمرائهم وجدالهم.

قال تعالى: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي قل لهم أيّها الرسول حكاية عن الله تعالى: مَنْ كان عدواً لجبريل فإنّ شأن جبريل كذا، فهو إذاً عدو لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها، ولهداية الله تعالى لخلقه وبشراه للمؤمنين، على ما يأتي في بيان ذلك. قال شيخنا في تقييد تنزيله بإذن الله: وإذا كان يناجي روحك ويخاطب قلبك بإذن الله، لا افتياتا من نفسه، فعداوته لا يصحّ أن تصد عن الإيمان بك، وليس للعاقل أن يتخذها تعلّة وينتحلها عذراً، فإنّ القرآن من عند الله لا من عنده. فقوله: { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } حجّة أولى عليهم، ثم قال: { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي حال كونه موافقاً للكتب التي تقدّمته في الأصول التي تدعو إليها من التوحيد وإتباع الحق والعمل الصالح، ومطابقاً لما فيها من البشارات بالنبيّ الذي يجيء من أبناء إسماعيل، كأنّه يقول: فآمنوا به لهذه المطابقة والموافقة، لا لأن جبريل واسطة في تبليغه وتنزيله، وهذه حجّة ثانية ثم عزّزهما بثالثة وهي قوله: { هُدًى } أي نزّله هادياً من الضلالات والبدع التي طرأت على الأديان، فألقت أهلها في حضيض الهوان. والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه، وتنقذه من ضلال هو فيه؛ لأن الواسطة في مجيئها كان عدوّاً له من قبل، فإنّ هذا الرفض من عمل الغبيّ الجاهل الذي لا يعرف الخير بذاته وإنّما يعرفه بمَنْ كان سبباً في حصوله.

السابقالتالي
2 3 4