الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } * { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } * { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }

قدّمنا أنّ الكلام من أوّل السورة في القرآن وأقسام الناس بإزائه، وذكرنا منهم ثلاث فرق - فرقتان لهما فيه هدىً: إحداهما: المتقون وبيّن حالهم بقولهٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3] إلخ، ومنهم الذين كانوا يدعون الحنيفيّين، والمنصفون من أهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون إشراق نور الحقّ ليهتدوا به كما تقدّم. والثانية: هي المذكورة في قوله تعالى:وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } [البقرة: 4] إلخ وهم كلّ مَنْ آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وغيرهم على التحقيق.

وبيّنّا أنّه يوجد بإزاء هاتين الطائفتين، طائفتان أخريان لا ترجى هدايتهما بالقرآن. الأولى منهما هي المشروح حالها في قوله تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6] إلخ. وهي كما قدّمنا تنقسم إلى قسمين: جاحدين لا يسمعون، ومعاندين يعرفون الحقّ ولا يذعنون.

وهذه الآيات - التي نحن بصدد تفسيرها الآن - هي المبيّنة لحال الفرقة الرابعة، وهي فرقة من الناس توجد في كلّ آن وفي كلّ عصر. وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل، ولذلك قال تعالى في بيان حالهم: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [البقرة: 8] ولم يقل عنهم: إنّهم يقولون مع ذلك " وآمنّا بك يا محمد " وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كلّ هذه العناية، ويطيل في بيان حالهم أكثر ممّا أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس. نعم، إنّ الآيات على عمومها تتناول مَنْ كان منهم في عصر التنزيل تناولا أوّليّاً، وتصف حالهم وصفاً مطابقاً، وهي مع ذلك عبرة عامة شاملة لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة، وقد كان ويكون من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ومن كلّ طائفة تدّعي أنّها على دين، ولم يحكَ عنهم دعوى الإيمان بالأنبياء والأعمال الصالحة - مع إنّ منهم الذين يدّعون ذلك - لأنّ الإيمان باليوم الآخر يتضمّن ذلك، فهو إنّما يعرف من قبل الأنبياء، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حدّ الإعجاز.

قد يقال: كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، كمنافقي اليهود، فلم كذّبهم ونفي عنهم الإيمان نفياً مطلقاً مؤكداً بدخول الباء في خبر " ما " فقال: { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصادقين البتّة. وهو أبلغ من نفي فعل الإيمان المطابق - للفظهم، والمقيَّد بالإيمان بالله وباليوم الآخر؟ والجواب: إنّ اعتقادهم التقليديّ الضعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم، فلو حصِّل ما في صدورهم، ومحِّص ما في قلوبهم، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم، لوُجِد أنّ ما كان لهم من عمل صالح كصلاة وصدقة فإنّما مبعثه رئاء الناس، وحبّ السمعة، وهم من وراء ذلك منغمسون في الشرور، كالإفساد والكذب والغشّ والخيانة والطمع وغير ذلك من الرذائل التي حكاها عنهم الكتاب ونقلها رواة السنّة، وهذه الأعمال تدلّ على أنّهم لا يؤمنون بالله كما يُحبّ ويرضى أن يؤمن به، وهو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه، ويعلم أنّ الله سبحانه مطّلع على سرّه وإعلانه؛ لأنّه مهيمن على السرائر، وعالم بما في الضمائر، فيرضيه بظاهره وباطنه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7