الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } * { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }

تأويله لمنامي صاحبي السجن ووصيته للناجي منهما:

{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا } [يوسف: 41] وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا { فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } يعني بربه مالك رقبته وهو الملك لا ربوبية العبودية فملك مصر في عهد يوسف لم يدع الربوبية والألوهية كفرعون موسى وغيره، بل كان من ملوك العرب الرعاة الذين ملكوا البلاد عدة قرون { وَأَمَّا ٱلآخَرُ } وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه { فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } أي الطير التي تأكل اللحوم كالحدأة. وهذا التأويل قريب من أصل رؤيا كل منهما، وقد يكون من خواطرهما النومية وتأويلهما على كل حال من مكاشفات يوسف ويؤكدها قوله { قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } فهذا نبأ زائد على تعبير رؤياهما ورد مورد الجواب عن سؤال كان يخطر ببالهما أو أسئلة في صفة ذلك التعبير وهل هو قطعي أم ظني يجوز غيره ومتى يكون؟ فهو يقول لهما إن الأمر الذي يهمكما أو يشكل عليكما وتستفتياني فيه قد قضي وبت فيه وانتهى حكمه. والاستفتاء في اللغة السؤال عن المشكل المجهول، والفتوى جوابه سواء أكان نبأ أم حكما، وقد غلب في الاستعمال الشرعي في السؤال عن الأحكام الشرعية، ومن الشواهد على عمومهأَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ } [يوسف: 43] وهي مشتقة من الفتوّة الدالة على معنى القوة والمضاء والثقة.

قلت إن هذه الفتوى من يوسف عليه السلام زائدة على ما عبر به رؤياهما داخلة في قسم المكاشفة ونبأ الغيب مما علمه الله تعالى وجعله آية له ليثقوا بقوله وهم أولو علم وفن وسحر، ومعناها أنه علم بوحي ربه أن الملك قد حكم في أمرهما بما قاله لا من باب تأويل الرؤيا على تقدير كون ما رأيا من النوع الصادق منها لا من أضغاث الأحلام (وسنبين الفرق بينهما في التفسير الإجمالي لكليات السورة إن شاء الله تعالى).

{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا } [يوسف: 42] وهو الذي أول له رؤياه بأنه يسقي ربه خمرا، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية، فإن كانت فتواه بعده عن وحي نبوي كما رجحنا لا تتمة لتأويلها، فيجوز أن يكون التعبير عن نجاته بالظن، لأن ما علم من قضاء الملك بذلك يحتمل إن يعرض ما يحول دون تنفيذه، وقد بينا في الكلام على رؤيا يوسف وما فهمه أبوه منها من أمر مستقبله إن علم الأنبياء ببعض الأمور المستقبلة إجمالي إلخ وقال جمهور المفسرين إن الظن هنا بمعنى العلم وفي هذه الدعوى نظر وقد بينا تحقيق الحق في الفرق بين الظن والعلم لغة واصطلاحا في موضع آخر فلا محل لإعادته هنا: { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } أي عند سيدك الملك بما رأيت وسمعت وعلمت من أمري عسى أن ينصفني ممن ظلموني ويخرجني من السجن، وهذا الذكر يشمل دعوته إياهم إلى التوحيد وتأويله للرؤيا وإنباءهم بكل ما يأتيهم من طعام وغيره قبل إتيانه، وآخره فتواه الصريحة فهي جديرة بأن تذكره به كلما قدم للملك شرابه { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أي أنسى الساقي تذكر ربه وهو أن يذكر يوسف عنده على حد:

السابقالتالي
2 3 4