الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } * { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

الدعوة إلى التوحيد الخالص ببرهانه

{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ } [يوسف: 39] أضافهما إلى السجن بمعنى يا ساكني السجن، أو بمعنى يا صاحبي في السجن كما قيل:
يا سارق الليلة أهل الدار   
أي سارقهم فيها { ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ } هذا استفهام تقرير بعد تخيير، ومقدمة لأظهر برهان على التوحيد، وكان المصريون المخاطبون به يعبدون كغيرهم من الأمم أربابا متفرقين في ذواتهم، وفي صفاتهم المعنوية ينعتونهم بها، وفي صفاتهم الحسية التي يصورها لهم الكهنة والرؤساء بالرسوم المنقوشة والتماثيل المنصوبة في المعابد والهياكل، وفي الأعمال التي يسندونها إليهم بزعمهم، فهو يقول لصاحبيه: { ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ } أي عديدون هذا شأنهم في التفرق والانقسام، وما يقتضيه بطبعه من التنازع والاختلاف في الأعمال، والتدبير المفسد للنظام، هو { خَيْرٌ } لكما ولغيركما من الأفراد والأقوام، فيما تطلبون ويطلبون من كشف الضر وجلب النفع، وكل ما تحتاجون فيه إلى المعونة والتوفيق من عالم الغيب.

{ أَمِ ٱللَّهُ } الواجب الوجود، الخالق لكل موجود { ٱلْوَاحِدُ } في ذاته وصفاته وأفعاله، المنفرد بالخلق والتقدير والتسخير، الذي لا ينازع ولا يعارض في التصرف والتدبير { ٱلْقَهَّارُ } بقدرته التامة وإرادته العامة، وعزته الغالبة، لجميع القوى والسنن والنواميس التي يقوم بها نظام العوالم السماوية والأرضية، كالنور والهواء والماء الظاهرة والملائكة والشياطين الباطنة، التي كان الجهل بحقيقتها، وسبب اختلاف مظاهرها، هو سبب عبادتها والقول بربوبيتها؟ الجواب الذي لا يختلف فيه عاقلان أدركا السؤال: بل هو الله الواحد القهار، لا رب غيره ولا إله سواه، ولذلك رتب عليه قوله:

{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ } [يوسف: 40] أي غير هذا الواحد القهار { إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ } من قبلكم أي وضعتموها لمسميات نحلتموها صفات الربوبية وأعمال الرب الواحد، فاتخذتموها أربابا وما هي بأرباب تخلق ولا ترزق، ولا تضر ولا تنفع، ولا تدبر ولا تشفع، فهي في الحقيقة لا مسميات لها بالمعنى المراد من لفظ الرب الإله المستحق للعبادة، حتى يقال إنها خير أم هو خير { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا } أي بتسميتها أربابا على أحد من رسله { مِن سُلْطَانٍ } أي أيَّ نوع من أنواع البرهان والحجة، فيقال إنكم تتبعونه بالمعنى الذي أراده تعالى منه، تعبداً له وحده وطاعة لرسله، فيكون اتباعها أو تعظيمها غير مناف لتوحيده، كاستلام الحجر الأسود عند الطواف بالكعبة المعظمة مع الاعتقاد بأنه حجر لا ينفع ولا يضر كما ثبت في الحديث - فهي تسمية لا دليل عليها من النقل السماوي فتكون من أصول الإيمان، ولا دليل عليها من العقل فتكون من نتائج البرهان.

وأقول إنه لما قامت هذه الحجة على النصارى ببطلان ثالوثهم الذي اتبعوا فيه ثالوث قدماء المصريين والهنود ادعوا أن له أصلا من الوحي الذي أنزله الله على المسيح عيسى ابن مريم أو تلاميذه، وأنه بهذا لا ينافي التوحيد فالثلاثة واحد والواحد ثلاثة، والذي حققه علماء الإفرنج المؤرخون تبعاً للمسلمين أنه لا أصل له من الوحي، وإن كلمات الأب والابن وروح القدس لها معان عند الذين آمنوا بالمسيح في حياته هي غير المعاني الاصطلاحية عند كنائس الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت الجامعة لأكثر النصارى، والأحرار العقليون من نصارى الإفرنج يرفضونها كلهم، وهم ملايين ولكن ليس لهم كنيسة جامعة، وإنما يقولون في المسيح ما قرره الإسلام فيه وأكثرهم لا يعلمون ذلك، ولو عرفوا حقيقة الإسلام لكانوا كلهم مسلمين، ولكنهم سيعلمون ويسلمون اتباعا، كما أسلموا فطرة وعقلا.

السابقالتالي
2 3