الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } * { وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }

سيرة يوسف عليه السلام في السجن

هذه الآيات الثلاث في إظهار معجزة النبوة، والتمهيد لدعوة الرسالة

{ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ } [يوسف: 36] هذا عطف على مفهوم ما قبله أي فسجنوه ودخل معه السجن بتقدير الله الخفي الذي يعبر عنه جاهلوه بالمصادفة والاتفاق: فتيان مملوكان تبين فيما بعد أنهما من فتيان ملك مصر. روي عن ابن عباس أن أحدهما خازن طعامه والآخر ساقيه، فماذا كان من شأنه معهما؟ { قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً } أي رأيت في المنام رؤيا واضحة جلية كأني أراها في اليقظة الآن وهي أنني أعصر خمرا، أي عنبا ليكون خمرا لا ليشرب الآن، وقراءة ابن مسعود وأبي في الشواذ: " أعصر عنبا " تفسير لا قرآن، وما كل العنب يعصر لأجل التخمير، فما نقل من أن عرب غسان وعمان يسمون العنب خمرا فمحمول على هذا النوع المخصوص منه لكثرة مائه وسرعة اختماره، دون ما يؤكل في الغالب تفكها لكبر حجمه واكتناز شحمه وقلة مائه، ولكل منهما أصناف.

{ وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ } الطير جمع واحده طائر، وتأنيثه أكثر من تذكيره، وجمع الجمع طيور وأطيار { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } أي قال له كل واحد منهما نبئني بتأويل ما رأيت، أي بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج إذا كان حقا لا من أضغاث الأحلام، ويصح إعادة الضمير المفرد على الكثير كاسم الإشارة بمعنى المذكور أو ما ذكر، ومنه قول الراجز:
فيها خطوط من سواد وبلق   كأنه في الجسم توليع البهق
{ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } عللوا سؤالهم إياه عن أمر يهمهم ويعنيهم دونه، برؤيتهم إياه من المحسنين بمقتضى غريزتهم الذين يريدون الخير والنفع للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعة خاصة ولا هوى، وقيل من المحسنين لتأويل الرؤى، وما قالا هذا القول إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن ما وجّه إليه وجوههما، وعلق به أملهما. وهذا من إيجاز القرآن الخاص به.

افترض يوسف عليه السلام ثقة هذين السائلين بعلمه وفضله، وإصغاءهما لقوله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤاهما فبدأ حديثه بما هو أهم عنده وهو دعوتهما وسائر من في السجن إلى توحيد الله عز وجل، فعلم من هذا أن وحي الرسالة جاءه بعد دخول السجن فحقق قوله:رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } [يوسف: 33] كما إن وحي الإلهام جاءه عند إلقائه في غيابة الجب على ما سبق، وحكمة هذا من ناحيته عليه السلام ظاهرة بما بيناه من أن الله تعالى جعل له في كل محنة ظاهرة، منحة باطنة، وفي كل بداية محرقة، نهاية مشرقة، تحقيقا لما فهمه أبوه من اجتباء ربه له إلخ.

السابقالتالي
2 3