الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } * { قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ } * { قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ }

حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومراودة يوسف:

هذه الآيات الست في حادثة النسوة من كبار بيوتات مصر اللائي مكرن بامرأة العزيز لتجمعهن بهذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها، خشية وطاعة لله، وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه، أن يخونه في أعز شيء لديه، لعله يصبو إليهن، ويجذبه من جمالهن الطارئ المفاجئ له، ما لم يجذبه من جمالها الذي ألفه قبل أن يبلغ أشده، وكان نظره إليها نظر الرقيق إلى سيدته، أو الولد إلى والدته، وقد جاءت في السورة بأبدع صورة من الإيحاز والبلاغة، وأعلى تعبير من الأدب والنزاهة، وهو:

{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ } [يوسف: 30] النسوة: جمع قلة للمرأة من غير مادة لفظها ولم يبين لنا التنزيل عددهن ولا أسماءهن ولا صفاتهن لأن الفائدة في العبرة محصورة في أن عملهن عمل جماعة قليلة يعهد في العرف ائتمارهن واتفاقهن على الاشتراك في مثل هذا المكر المنكر، في مدينة كبيرة كعاصمة مصر، التي بلغت منتهى فتن الحضارة، وما تقتضيه من التمتع بالشهوات والزينة، ولفظ النسوة مفرد مذكر فيجوز تذكير ضميره للفظه وتأنيثه لمعناه.

ومن غريب فتنة الروايات الباطلة أن يدعي بعضهم أن اللواتي أجبن دعوتها الآتية منهن كن أربعين امرأة، وهو مردود بالتعبير عن العاذلات كلهن بجمع القلة، وكذا ما علم بقرينة الحال والمقال من أنهن من بيوتات كبار الدولة، فإن نساء البيوت الدنيا وكذا الوسطى لا يتسامين بعد الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الملك، إلى الوصول إليها بالمكر والحيلة، لمشاركتها في فتنتها بل نعمتها، أو سلب عشيقها منها، ويؤيد ذلك ما يأتي من عاقبة حادثتهن، وكان من الطبيعي المعهود أن يعرفن نبأها معه، ويكون حديثهن الشاغل لهن في مجالسهن الخاصة، وكان خلاصته الوجيزة المؤدية لمرادهن منه ما حكاه التنزيل عنهن وهو قولهن:

{ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } هذا خبر يراد به لازمه وهو التعجب والإنكار الصوري من النواحي أو الجهات الأربع:

1- كون المتحدث عنها امرأة عزيز مصر وزير الملك الأكبر في علو مركزها.

2- كونها تهين نفسها وتحقر مركزها بأن تكون مراودة لرجل عن نفسه وشأن مثلها إن سخت بعفتها أن تكون مراودة عن نفسها لا مراودة لغيرها كما تقدم.

3- أن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها.

4- أنها بعد أن افتضح أمرها وعرف به سيدها وزوجها، وعاملها بالحلم، وأمرها باستغفار ربها، لا تزال مصرة على ذنبها، مستمرة على مراودتها، وهو ما أفاده قولهن: (تراود) وهو فعل المضارع الدال على الاستمرار.

{ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } أي قد اخترق حبه شغاف قلبها أي غلافه المحيط به، وغاص في سويدائه، فملك عليها أمرها، حتى إنها لا تبالي ما يكون من عاقبة تهتكها، واللائق بمقامها الكتمان ومكابرة الوجدان { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي إنا لنراها بأعين بصائرنا وحكم رأينا غائصة في غمرة من الضلال البين الظاهر البعيد عن محجة الهدى والصواب.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9