الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } * { قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } * { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ }

هذه الآيات الأربع في بيان ما نفذوا به عزمهم بالفعل، وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم من تكذيب وصبر، واستعانة بالله عز وجل، قال:

{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [يوسف: 15] في الغد من ليلتهم التي استنزلوا فيها أباه عن إمساكه عنده { وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ } أي أزمعوه وعزموا عليه عزما إجماعيا لا تردد فيه بعد ما كان من اختلافهم قبل في قتله أو تغريبه، وجواب: " لما " محذوف للعلم به مما قبله ومما بعده وتقديره نفذوه بأن ألقوه في غيابة ذلك الجب بالفعل { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } عند إلقائه فيه وحيا إلهاميا علم أنه منا مضمونه: وربك { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا } معك إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقا { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } يومئذ بما آتاك الله، أو الآن بما يؤتيك في عاقبة هذه الفعلة التي فعلوها بك، أو بهذا الوحي في الجب وهو المرتبة الأولى من مراتب التكليم الإلهي للأنبياء بعد التمهيد له بالرؤيا الصادقة. وقد هون الله تعالى على يوسف مصيبته به فعلم أنها مصيبة في الظاهر نعمة في الباطن، وقد نقلوا عن السدي أن إخوة يوسف طغوا في القسوة عليه والتنكيل به فقالوا وفعلوا ما لا يصدر مثله إلا عن رعاع الناس وأراذل المجرمين الظالمين، وما هي إلا الإسرائيليات المنفرة من الإسلام والمسلمين.

{ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } [يوسف: 16] أي جاءوه في وقت العشاء إذ خالط سواد الليل بقية بياض النهار فمحاه حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يبغون وقد بينه تعالى بقوله:

{ قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } [يوسف: 17] أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره، فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة والتسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب، وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق ومنه:فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } [البقرة: 148] فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، وقوله الآتي في هذه السورة:وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } [يوسف: 25] كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه، وصيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى. ولم يفطن الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } من فضل الثياب وماعون الطعام والشراب (مثلا) يحفظه، إذ لا يستطيع مجاراتنا في استباقنا الذي ترهق به قوانا { فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } إذ أوغلنا في البعد عنه فلم نسمع صراخه واستغاثته { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } أي بمصدق لنا في قولنا هذا لاتهامك إيانا بكراهة يوسف وحسدنا له على تفضيلك إياه علينا في الحب والعطف { وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } في الأمر الواقع أو نفس الأمر، أو - ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا في هذا الخبر لشدة وجدك بيوسف.

السابقالتالي
2