الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } * { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } * { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } * { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ }

هذه الآيات الأربع في إهراع قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم.

{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً } [هود: 77] بعد ذهابهم من عند إبراهيم { سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } أي وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم وضاق بهم ذرعه أي عجز عن احتمال ضيافتهم، فذرع الإنسان منتهى طاقته التي يحملها بمشقة. ذلك لما يتوقعه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم، وروي أنهم جاءوه بشكل غلمان حسان الوجوه { وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } شديد الأذى، مرهوب الشذى، مشتق من العصب بفتح فسكون أي الشد فهو بمعنى معصوب ويجوز أن يكون بمعنى عاصب، والعصب بالتحريك أطناب المفاصل، ومنه العصابة التي يشد بها الرأس.

{ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } [هود: 78] أي جاءوه يهرولون متهيجة أعصابهم كأن سائقاً يسوقهم، قال في المصباح المنير: هرع وأهرع بالبناء فيهما للمفعول إذا أعجل على الإسراع، أي حمل على العجل به وقال الكسائي والفراء وغيرهما لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمى وينبغي أن يزاد عليه أو شهوة شديدة، وقال مجاهد: هو مشي بين الهرولة والعدو: { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة، وشرها أفظع الفاحشة وأنكرها في الفطرة البشرية والشرائع الإلهية والوضعية، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء، ومجاهرتهم بها في أنديتهم كأنها من الفضائل يتسابقون إليها ويتبارون فيها، كما حكى الله عنه من قوله بعد رميهم بالفاحشة في قوله تعالى:أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } [العنكبوت: 29] فماذا فعل لوط وبم واجههم وعارضهم؟ { قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فتزوجوهن، قيل أراد بناته من صلبه، وأنه سمح بتزويجهم بهن بعد امتناع لصرفهم عن أضيافه، وقيل أراد بنات قومه في جملتهن لأن النبي في قومه كالوالد في عشيرته، قاله ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وسعيد بن جبير، ويدخل فيه نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج، يعني إن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط، فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد، وصيغة التفضيل هنا للمبالغة في الطهر فلا مفهوم لها، وهذا كثير في اللغة، ويقول النحويون فيه: إن أفعل التفضيل على غير بابه، والظاهر أنه يأمرهم في هذه الحال الذي هاجت فيه شهوتهم واشتد شبقهم أن يأتوا نساءهم، كما ورد في الإرشاد النبوي لمن رأى امرأة أعجبته إن يأتي امرأته في تلك الحالة التي هاجته فيها رؤيتها.

وزعم بعض المفسرين أنه عليه السلام عرض على هؤلاء الفساق المجرمين بناته أن يستمتعوا بهن كما يشاءون ومثل هذا في سفر التكوين (19: 8) وفيه أنهما اثنتان، ولا يعقل أن يقع هذا الأمر من أي رجل صالح فضلا عن نبي مرسل، ولا يصح في مثله أن يعبر عنه بأنه أطهر لهم، فغسل الدم بالبول ليس من الطهارة في شيء، وإن كان يعتقد أنهم لا يجيبونه إلى هذا الفعل، بل الذنب في هذه الحال أكبر، لأنه أمر بالمنكر، وخروج عن الحكم الشرعي، إيثارا للتجمل الشخصي، وهو لا يتعارض مع قوله لهم بعده { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } فإن الزنا ليس من التقوى بل هو هدم لها، وإنما معنى هذا الأمر والنهي: فأجمعوا بما أمرتكم به بين تقوى الله باجتناب الفاحشة، وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالي وامتهاني بفضيحتي في ضيفي، فإن فضيحة الضيف فضيحة للمضيف وإهانة له.

السابقالتالي
2