الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }

بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه إحاطة علمه إثر بيان ما يغفل الناس عن علمه به، وبين في التي قبلها شمول قدرته لكل شيء، وبين في الآية الأولى من هاتين الآيتين ما يهم الناس من آثار قدرته، ومتعلقات علمه، وكتابة مقادير خلقه، وهو ما يتعلق بحياتهم وشؤونهم، وفي الآية التي بعدها خلقه للعالم كله، ومكان عرشه قبل هذا من ملكه، وبلاء البشر خاصة بذلك كله، ليظهر أيهم أحسن عملا، وبعثه إياهم بعد الموت لينالوا جزاء أعمالهم، وإنكار كفارهم لهذا، قال:

{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } الدب والدبيب: الانتقال الخفيف البطيء حقيقة كدبيب الطفل والشيخ المسن والعقرب والجراد أو بالإضافة كدبيب الجيش، أو مجازاً كدبيب السكر والسم في الجسم، والدابة اسم عام يشمل كل نسمة حية تدب على الأرض زحفاً أو على قوائم ثنتين فأكثر، قال تعالى:وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } [النور: 45] أي مما تعلمون ومما لا تعلمون مما يدب على الأرض ومما يطير في الهواء ومما يسبح في البحار والأنهار. وغلبة لفظ الدابّة على ما يركب من الخيل والبغال والحمير عرفا لا لغة. ورزق الدابة غذاؤها الذي تعيش به.

والمعنى: ما من دابة من أنواع الدواب في الأرض إلا على الله رزقها على اختلاف أنواعها وأنواعه، فمنها الجنة التي لا ترى بالأبصار، وصغار الحشرات والهوام، وضخام الأجسام، والوسطى بين الكبير والصغير، وأغذية كل نوع مختلفة من نباتية وحيوانية، وقد أعطى كلا منها خلقه المناسب لمعيشته، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بغريزته، فمنها ما خلق له خراطيم يمص بها غذاءه من النبات أو دم الحيوان، وأعطاها من القوة ما إن خرطوم البعوضة الدقيق ليخترق جلد الإنسان وما هو أكثف منه من جلود الحيوان، ومنها ما خلق له مناقير تلتقط الحبوب، ومنها ما يمضغ النبات بأسنانه مضغاً، وما يبلع الحشرات والطيور والأنعام بلعاً، وما له مخالب يمزق بها اللحوم، وما له براثن يقتل بها كبار الجسوم، وتفصيل هذا له كتب خاصة من قديمة وحديثة، ولله تعالى حكم في خلقها وغذائها عجيبة، فإن خفي عليك أمر تغذي الحيات والسنانير ونحوها من خشاش الأرض وصغارها، وتغذي الأفاعي الكبرى وسباع الوحش والطير من كبارها، فأول ما ينبغي لك أن تفكر فيه من حكمتها، أنه لولا ذلك لضاقت الأرض ذرعاً بكثرة أحيائها، أو لأنتنت من كثرة أمواتها، وإذا أردت زيادة العلم بها وبحكمتها فعليك بالمصنفات المدونة فيها، وقد فتحت هذه الآية وأمثالها لك أبوابها، وأرشدتك إلى تطلابها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9