الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } * { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِيۤ أَكُن مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ }

هذه الآيات الثلاث في مسألة فرعية من قصة نوح لا من صلب القصة وأصول وقائعها ولكنها تدخل في العقائد وأصول الدين من بابين اثنين لا من باب واحد، أحدهما باب الإلهيات بما فيها من حكم الله وعدله وسنته في خلقه بلا محاباة لولي ولا نبي، وثانيهما اجتهاد الأنبياء وجواز الخطأ فيه وعدّه ذنباً عليهم بالإضافة إلى مقامهم ومعرفتهم بربهم، - وهي ما عرض له عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلف عن السفينة وكان من المغرقين كما مرّ في الآية 43 وكان ظاهر الترتيب أن تجعل بعدها فتكون 44 ووجه هذا التقديم والتأخير بينهما الذي اقتضته البلاغة العليا، والحكمة البالغة المثلى، هو أن قدمت الآية المتممة لأصل القصة المبينة لوجه العبرة فيها بأروع التعبير، الذي يقرع أبواب القلوب بأبلغ قوارع التأثير، فكان اتصالها بها كاتصال الموجب بالسالب من الكهربائية الذي يتولد به البرق الذي يخطف الأبصار، والصاعقة التي تمحق ما تصيبه من الأشياء والأشخاص، فالآية الثالثة والأربعون تصور لقارئها وسامعها نكبة الطوفان بأعظم الصور هولاً ورعباً ودهشاً تطيش لها الألباب، وتحار في تصور كشفها وما يؤول إليه أمرها الأخيلة والأفكار، فتتلوها الآية الرابعة والأربعون فتكون الفاصلة بكشف ذلك الكرب العظيم بكلمتين وجيزتين من كلمات التكوين الإلهي، قضي بهما الأمر بنجاة المؤمنين الصالحين، وهلاك المشركين الظالمين، ولو فصل بينهما بهذه الآيات الثلاث [45 - 47] اللواتي وضعن بعدهما، لضاع تسعة أعشار بلاغتهما وتأثيرهما في العبرة والموعظة المقصودة من القصة كلها، التي كانت كاشتعال الكهرباء مظهراً لسرعة مشيئته تعالى في كشف الكرب، فكان منها نور ظهرت به رحمته في إنجاء السفينة وأهلها المؤمنين، وصاعقة محقت جميع الظالمين.

{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } [هود: 45] في إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة ودعاه إليها فلم يستجب { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي } هذا تفسير لنادى، أي فكان نداؤه أن قال يا رب إن ابني هذا من أهلي الذين وعدتني بنجاتهم إذ أمرتني بحملهم في السفينة { وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ } الذي لا خلف فيه وهذا منه { وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } أي أحق من كل من يتصور منهم الحكم وأحسنهم وخيرهم حكماً كما قال تعالى:وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50] وقال تعالى:وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } [الأعراف: 87، يوسف: 80] وذلك أن حكمه تعالى لا يكون إلا بالحق والعدل، لأنه يصدر عن كمال العلم والعدل والحكمة، فلا يعرض له الخطأ ولا المحاباة، ولا الحيف والظلم، وحكمه تعالى يطلق على ما يشرعه من الأحكام، وعلى ما ينفذه في عباده من جزاء على الأعمال، ومراد نوح بهذا أن ينجي ابنه الذي تخلف عن السفينة بعد أن دعاه إليها فامتنع معللاً نفسه بأن يأوي إلى جبل يعتصم به من الغرق ولم يقتنع بقوله له:

السابقالتالي
2 3 4