الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } * { قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } * { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

{ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ } هذا تصوير لحالها في جريها بهم كأنها حاضرة أمام القارئ أو السامع، أي تجري في أثناء موج يشبه الجبال في علوه وارتفاعه وامتداده، وهو ما يحدث في ظاهر البحر عند اضطرابه من التموّج والارتفاع بفعل الرياح، واحده موجة وجمعه أمواج، وأصل الموج الاضطراب ومنهوَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } [الكهف: 99] ومن عرف ما يحدث في البحار العظيمة من الأمواج عندما تهيجها الرياح الشديدة، رأى أن المبالغة في هذا التشبيه غير بعيدة، وصف لي بعضهم سفره في المحيط الهندي في زمن رياح الصيف التي يسمونها الموسمية بما معناه: كنت أرى السفينة تهبط بنا في غور عميق، كواد سحيق، نرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليها، فإذا بها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها في شاهق جبل تريد أن تنقض منه، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها، لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها، وراجع وصف البحر في تفسير قوله تعالى:هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [يونس: 22].

{ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ } عند الركوب في السفينة وقبل جريانها ولم يسبق له ذكر وسيأتي بقية خبره في آخر القصة { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } أي مكان عزلة وانفراد دون أهله الذين ركبوا فيها ودون الكفار { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } أي مع والدك وأهلك الناجين { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } المقضي عليهم بالهلاك.

{ قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ } أي سألجأ إلى جبل عالٍ يحفظني من الماء أن يصل إليّ فأغرق { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } أي لا شيء في هذا اليوم العصيب يعصم أحداً من أمر الله الذي قضاه، فليس الأمر والشأن أمر ماء يرتفع بكثرة المطر كالمعتاد، فيتقي الحازم ضره بما يقدر عليه من الأسباب، وإنما هو أمر انتقام عام من أشرار العباد، الذين أشركوا بالله وظلموا وطغوا في البلاد، لكن من رحم الله منهم فهو يعصمه ويحفظه. وقد اختص بهذه الرحمة من أمر يحملهم في هذه السفينة { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } وكان قد بدأ يرتفع في أثناء هذا الحديث حتى حال بين الولد ووالده { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } الهالكين.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعمل منها سفينة ويمرون فيسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ قال سوف تعلمون فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب الماء بها، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي ".


السابقالتالي
2 3 4