الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } * { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قال الراغب الجدال المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة. وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله ومنه الجديل (أي الحبل المفتول) وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة والأجدل الصقر المحكم البنية، والمجدل (كمنبر) القصر المحكم البناء، ومنه الجدال فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر على رأيه. وقيل الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي (بالفتح) الأرض الصلبة اهـ. وقال الفيومي في المصباح المنير جدل الرجل جدلاً فهو جدل من باب تعب إذا اشتدت خصومته، وجادل مجادلة إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، هذا أصله، ثم استعمل في لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق وإلا فمذموم اهـ. وقد ورد عدة أحاديث وآثار في ذم الجدل والنهي عنه منها: " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعا.

{ قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي قد خاصمتنا وحاججتنا فأكثرت جدالنا، واستقصيت فيه فلم تدع لنا حجة إلا دحضتها حتى مللنا وسئمنا ولم يبق عندنا شيء نقوله - يدل على هذا قوله في قوله تعالى:قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [نوح: 5-6] إلخ وقوله لهم في التعبير عن هذه الحالة من سورة يونس في قوله تعالى:يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [يونس: 71] إلخ { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } من عذاب الله الدنيوي الذي تخافه علينا، الأقرب أن يكون المراد به قولهإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [هود: 26] ويجوز أن يكون غيره كما تقدم { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } في دعواك أن الله يعاقبنا على عصيانه في الدنيا قبل الآخرة.

{ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ } أي إن هذا لله وبيده لا أملكه أنا وإنما هو الذي يأتيكم به إن تعلقت مشيئته به في الوقت الذي تقتضيه حكمته، وهذا بيان للواقع لا شك فيه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } ولا فائتين له إن أخره لحكمة يعلمها فهو متى شاء واقع ما له من دافع، ونفي الإعجاز مؤكد بالباء.

{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } النصح تحري الصلاح والخير للمنصوح له والإخلاص فيه قولاً وعملاً من قولهم ناصح العسل لخالصه المصفى منه، ونصح له أفصح من نصحه، والإغواء الإيقاع في الغي وهو الفساد الحسي والمعنوي، والمعنى إن نصحي لكم لا ينفعكم بمجرد إرادتي له فيما أدعوكم إليه وإنما يتوقف نفعه على إرادة الله تعالى، وقد مضت سنته تعالى بما عرف بالتجارب أن نفع النصح له شرطان أو طرفان هما الفاعل للنصح والقابل له، وإنما يقبله المستعد للرشاد، وبرفضه من غلب عليه الغي والفساد، بمقارفة أسبابه من الغرور بالغنى والجاه والكبر، وهو غمط الحق واحتقار المتكبر لمن يزدري من الناس، وتعصبه لما كان عليه الآباء والأجداد، واتباع الهوى وحب الشهوات المانعة من طاعة الله، فمعنى إرادة الله تعالى لإغوائهم اقتضاء سنته فيهم أن يكونوا من الغاوين، لا خلفه للغواية فيهم جزافا أنفا (بضمتين) أي ابتداء بغير عمل ولا كسب منهم لأسبابها، فإن هذا مضاد لمذهب أهل السنة في إثبات خلق الأشياء مقدرة بأقدارها، ترتبط أسبابها بمسبباتها.

السابقالتالي
2