الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } * { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } * { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } * { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ }

تضمنت هذه الآيات الأربع دحض تلك الشبهات الأربع التي ردوا بها عليه وشبهات أخرى من لوازمها، وربما صرحوا بها واستغني عن حكايتها بالعلم بها من الرد عليها، وهو من دقائق إيجاز القرآن المعجز للبشر فتأمله.

{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ } خاطبهم عليه السلام بلقب القوم مضافاً إلى ضميره (يا قومي، وحذف الياء من الرسم مراعاة للنطق) استعطافاً وإيذاناً بأنه يدعوهم إلى ما هو خير لهم، وكلمة (أرأيتم) تستعمل عند العرب بمعنى أخبروني عن رأيكم فيما يأتي بعدها كما تقدم في سورة يونس آية [50 و59] وغيرها، والبينة ما يتبين به الحق وتقدم الكلام عليها آنفاً في تفسير الآية 17.

أي أخبروني يا قومي الأعزاء ما رأيكم وقولكم في حالي معكم إن كنت على حجة ظاهرة من ربي فيما جئتكم به تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي وكسبي البشري الذي تشاركونني فيه وإنما هي فوق ذلك.

{ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } وهي النبوة وتعاليم الوحي التي هي سبب رحمة الله الخاصة لمن يهتدي بها فوق رحمته العامة لعباده كلهم { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } قرأ الجمهور عميت بالتخفيف كخفيت وزنا ومعنى، ومثلها في قوله تعالى:فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ } [القصص: 66] وقرأها حمزة والكسائي وحفص بالتشديد والبناء للمفعول، أي فحجبها عنكم جهلكم وغروركم بمالكم وجاهكم فلم تستبينوا بها ما تدل عليه من التفرقة بيني وبينكم إذ جعلتموني بشراً مثلكم، والتعبير بعميت مخففة ومشددة أبلغ من التعبير بخفيت وأخفيت لأنه مأخوذ من العمى المقتضى لأشد أنواع الخفاء، ويجوز عودة الضمير إلى البينة لاقتضاء خفائها خفاء الرحمة كما هو: أن الدليل مع المدلول، ويجوز عوده إلى الرحمة باعتبار ذكرها بعد البينة كأنه قال فخفيت عليكم رحمة الله لكم بهذه النبوة لخفاء البينة الدالة عليها، أو لأن البينة خاصة به عليه السلام وهي العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي.

{ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } أي أنلزمكم إياها بالجبر والإكراه والحال أنكم كارهون لها إنكاراً، وجحوداً واستكباراً؟ أي لا نفعل ذلك فإن الإسلام لا يصح إلا بإيمان الإذعان،وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [النور: 54] وهو أول نص في دين الله تعالى يدل على أنه ما كان ولا يصح أن يكون بالإكراه، وأما ما فعله نصارى الإفرنج في سابق تاريخهم - وما لا يزال يفعله بعضهم في مستعمراتهم - من التنصير بإجبار الأقوام على النصرانية، فهو مما امتازوا به على أمم الشرق في ظلمهم وتعصبهم. وهذه الآية إثبات لنبوته عليه السلام ورد لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها، وإبطال لشبهتهم الأولى في أنه بشر مثلهم. وهي مبنية على أن المساواة في البشرية تقتضي استواء أفراد الجنس، ويدفعها ما هو معلوم بالحس والخبر (بالضم أي الاختبار) من التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرأي والأخلاق والأعمال بما هو أبعد من التفاوت بينهم وبين بعض الحيوان الأعجم، حتى إن واحداً منهم ليأتي من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل ما يعجز عن مثله الألوف الكثيرون في القرون المتوالية، وكل هذا في محيط التفاوت العادي، والعلم والعمل الكسبي، وفوقهما ما اختص الله به من شاء من عباده بما لا كسب لهم فيه فجعلهم أنبياءً ورسلاً له، كما بيناه بالتفصيل في مباحث الوحي المحمدي.

السابقالتالي
2 3 4