الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ }

هذا السياق تفصيل للأوامر والنواهي التي هي ثمرة الاعتبار بما كان من سيرة الأمم مع الرسل: من جحدوا فأهلكوا، ومن آمنوا ثم اختلفوا وتفرقوا، فمن جمع بين هذا الأمر والنهي كمل إيمانه، وما بعدهما تفصيل لهما.

{ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } [هود: 112] أي إذا كان أمر أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول فاستقم مثل ما أمرناك في هذا الكتاب أي الزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه بالثبات عليه واتقاء الاختلاف فيه { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي وليستقم معك من تاب من الشرك وآمن بك واتبعك { وَلاَ تَطْغَوْاْ } فيه بتجاوز حدوده غلواً في الدين، فإن الإفراط فيه كالتفريط، كل منهما زيغ عن الصراط المستقيم، وهو يدل على وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية وهي العقائد والعبادات وعلى اجتناب الرأي وبطلان التقليد فيها { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: إنه تعالى بصير بعملكم يبصر به ويراه ويحيط به علما فيجزيكم به. يقال: بصر بالشيء في اللغة الفصحى ومنهفَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } [القصص: 11].

وقال تعالى في مثل هذا السياق من سورة الشورى بعد ما تقدم في قوله تعالى:فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [الشورى: 15] أمره أن يدعو إلى الدين الذي كان عليه الرسل في عصورهم، قبل الاختلاف فيه الذي ابتدع من بعدهم، وأن يستقيم عليه كما أمره الله، وأن يخاطب أهل الكتاب بما يتبرأ به من الاختلاف، ومن إثارته بحجج الجدال، واكتفى في سورة هود بالأمر بالاستقامة على الجادة والنهي عن الطغيان، ومنه البغي الذي يورث الاختلاف، لأن المقام مقام العبرة العامة بقصص الرسل كافة، لا بحال قوم موسى ومن أورثوا الكتاب خاصة، فهذا فرق ما بين المقامين في هذه الآيات المتشابهة.

وقد أوجز القاضي البيضاوي في وصف هذه الاستقامة فقال: " وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين - والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها، وهي في غاية العسر " (كذا قال) ثم قال: " وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس أو استحسان " اهـ وهذا أحسن مما قبله وهو ينقض بعضه.

فأحق النصوص بالاتباع من غير تصرف نصوص العقائد من صفات الله تعالى وعالم الغيب إذ لا مجال للعقل والرأي فيها، وقد كان تحكيم النظريات العقلية فيها مثار الاختلاف والشقاق والافتراق في الأمة الذي نعاه القرآن على أهل الكتاب، وحذرنا منه في هذا السياق، وفيما هو أوضح منه من سياق سورة الشورى، وما في معناهما من السور الأخرى، وقد ترك البيضاوي بابه مفتوحا بزعمه إن الاستقامة في العقائد وسط بين التعطيل والتشبيه، ويعني به التأويل الكلامي لأنه من أساطين نظاره، وحجته قوله: بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد