الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } * { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } * { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }

هذه الآيات الثلاث في العبرة العامة بما في إهلاك الأمم الظالمة في الدنيا من موعظة، ويتلوها العبرة بعذاب الآخرة قال تعالى:

{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ } [هود: 100] أي ذلك الذي قصصناه عليك أيها الرسول بعض أنباء الأمم أي أهم أخبارها، وأطوار اجتماعها في القرى والمدائن من قوم نوح ومن بعدهم { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } في هذا القرآن أو هذه السورة لتتلوه على الناس ويتلوه المؤمنون آناً بعد آن، للإنذار به تبليغاً عنا، فهو مقصوص من لدنا بكلامنا { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } أي من تلك القرى ما له بقايا مائلة وآثار باقية كالزرع القائم في الأرض، كقرى قوم صالح، ومنها ما عفا ودرست آثاره كالزرع المحصود الذي لم يبق منه بقية في الأرض كقرى قوم لوط.

{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } [هود: 101] أي وما كان إهلاكهم بغير جرم استحقوا به الهلاك، ولكن ظلموا أنفسهم بشركهم وفسادهم في الأرض، وإصرارهم حتى لم يعد فيهم بقية من قبول الحق وإيثار الخير على الشر، بحيث لو بقوا زمناً آخر لما ازدادوا إلا ظلماً وفجوراً وفساداً، كما قال نوح عليه السلام:إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 27] وقد بالغ رسلهم في وعظهم وإرشادهم، فما زادهم نصحهم لهم إلا عناداً وإصراراً، وأنذروهم العذاب فتماروا بالنذر استكبارا، واتكلوا على دفع آلهتهم العذاب عنهم إن هو نزل بهم { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي: فما نفعتهم آلهتهم التي كانوا يدعونها ويطلبون منها أن تدفع عنهم الضر بنفسها أو بشفاعتها عند الله تعالى لما جاء عذاب ربك تصديقاً لنذر رسله { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } أي: هلاك وتخسير وتدمير، وهو من التباب أي الخسران والهلاك: يقال تببه تتبيبا، أي: أهلكه، وتب فلان وتبت يده أي خسر أو هلك: " وتبا له " في الدعاء بالهلاك، ومعنى زيادتهم إياهم تتبيبا أنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا على ظلمهم وفسادهم، ظنا أنهم ينتقمون لهم من الرسل كما قال بعضهم لرسولهم:إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ } [هود: 54].

{ وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [هود: 102] أي: ومثل ذلك الأخذ بالعذاب وعلى نحو منه أخذ ربك لأهل القرى في حال تلبسها بالظلم في كل زمان وكل قوم { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } أي وجيع قاس لا هوادة فيه ولا مفر منه ولا مناص، فالجملة بيان للتشبيه فيما قبلها. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعا: " إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية. وهو تصريح بعمومها، ولكن الظالمين قلما يعتبرون، ولا سيما إذا كانوا مع ظلمهم مغرورين بدين يتحلون بلقبه، ولا يحسبون حسابا لإملاء الله تعالى واستدراجه.