الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } * { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } * { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }

هذه الآيات الثلاث تفريع على اللواتي قبلهن وتكميل لهن في بيان سنة الله في الأمم مع رسلهم، وفي خلق البشر مستعدين للأمور المتضادة من الإيمان والكفر، وفي تعلق مشيئة الله وحكمته بأفعاله وأفعال عباده ووقوعها على وقفهما.

{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا } [يونس: 98] لولا هذه للتخصيص كما قال أئمة اللغة والنحو، والمراد بالقرية أهلها وهم أقوام الأنبياء، فإنهم كلهم بعثوا في أهل الحضارة والعمران دون البادية أي فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل آمنت بدعوتهم وإقامة الحجة عليهم، فنفعها إيمانها قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به، أي أنه لم يؤمن قوم منهم برمتهم، فإن التحضيض يستلزم الجحد.

{ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ } قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم من بينهم وروي أنهم رأوا علاماته، ويجوز في هذا الاستثناء الاتصال والانفصال { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان في الدنيا لأن نبيهم خرج بدون إذن الله تعالى له، فلم تتم عليهم الحجة ولا حقت عليهم كلمة العذاب، وقد استدلوا بذهابه مغاضباً لهم على قرب وقوع العذاب كما أنذرهم فتابوا وآمنوا فكشفناه عنهم { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } أي ومتعناهم بمنافعها إلى زمن معلوم هو عمرهم الطبيعي الذي يعيشه كل منهم بحسب سنته تعالى في استعداد بنيته ومعيشته. وقد فصلنا الكلام في الأجل الذي يسمى الطبيعي وغيره في تفسير:ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } [الأنعام: 2] من سورة الأنعام، ولا محل للبحث عن تعذيبهم في الآخرة كما فعل بعض المفسرين فإن شهادة الله تعالى لهم بالإيمان النافع ظاهرة في قبوله منهم صريحة، في أنه لا يعذبهم في الآخرة على سابق كفرهم، وإنما يجزون بغيره من أعمالهم بعد الإيمان.

هذا الذي فسرنا به الآية هو المتبادر من عبارتها والموافق للسياق ولسنة الله تعالى في أقوام الأنبياء عليهم السلام، وفيه تعريض بأهل مكة وإنذار لهم وحض على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا عذاب الخزي بعنادهم حتى إذا أنذرهم نبيهم قرب وقوعه وخرج من بينهم اعتبروا وآمنوا قبل اليأس، وحلول البأس، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ثبت من خبره عليه السلام في تفسير سورتي الأنبياء والصافات، وهو موافق في جملته لما عند أهل الكتاب.

{ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } [يونس: 99] أي ولو شاء ربك -أيها الرسول الحريص على إيمان الناس - أن يؤمن أهل الأرض كلهم جميعاً لا يشذ أحد منهم لآمنوا، بأن يلجئهم إلى الإيمان إلجاء، ويوجره في قلوبهم إيجاراً، ولو شاء لخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة، لا استعداد في فطرتهم لغير الإيمان، وفي معنى هذا قوله تعالى:

السابقالتالي
2