الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ }

بين الله تعالى في هذه الآية عبرة أخرى من عبر مكذبي الرسل وسنة من سننه فيهم، تكملة لما بينه في حال قوم نوح مع رسولهم عسى أن يعتبر بها أهل مكة فيعلموا كيف يتقون عاقبة المكذبين من قوم نوح وغيرهم، فإن كل سوء وضر علم سببه أمكن اتقاؤه باتقاء سببه إذا كان من عمل الناس الاختياري كالكفر والاعتداء والظلم.

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ } [يونس: 74] أي بعثنا من بعد نوح رسلاً مثله إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه فيما يأتي من خبرهم معهم، ولهذا أفرد كلمة قومهم فيما يظهر لنا منه والمراد أرسلنا كل رسول منهم إلى قومه كهود إلى عاد وصالح إلى ثمود، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام الذين كانوا في زمانه إلا شعيباً، أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى جيرانهم أصحاب المؤتفكة لاتحادهما في اللغة والوطن، وإنما أرسل محمد وحده إلى الناس كافة.

{ فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَٰتِ } أي فجاء كل رسول منهم قومه بالبينات الدالة على رسالته وصحة ما دعاهم إليه، بحسب أفهامهم وأحوالهم العقلية.فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } [الأعراف: 101] أي فما كان من شأنهم أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم من قبل ممن كان مثله في سبب كفره، وهو استكبار الرؤساء، وتقليد الدهماء للآباء والأجداد.

{ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ } [يونس: 74] أي مثل هذا الطبع، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت فيهم، نطبع على قلوب المعتدين مثلهم في كل قوم كقومك أيها الرسول إذا كانوا مثلهم:وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } [الاسراء: 77] ووَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 62].

فأما الطبع على القلوب فهو عبارة عن عدم قبولها شيئاً غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها مما يخالفه، كقبول الجاهل المقلد الدليل العلمي على بطلان اعتقاده التقليدي، ورجوع المعاند عن عناده وكبره النفسي وقد تقدم تفصيله في تفسير ما سبق فيه من الآيات في سور النساء والأعراف والتوبة، ومثله تفسير:خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } [البقرة: 7] في أوائل سورة البقرة.

وأما الاعتداء الذي صار وصفاً ثابتاً لهؤلاء (المعتدين) فمعناه تجاوز حدود الحق والعدل اتباعاً لهوى النفس وشهواتها، فالطبع المذكور أثر طبعي للحالة النفسية التي عبر عنها بوصف الاعتداء، وليس عقاباً أنفاً (بضمتين أي جديداً) خلقه الله لمنعهم من الإيمان، إذ لو كان كذلك لكانوا معذورين بكفرهم، ولما كان فيه عبرة لغيرهم، بل لكان حجة لهم، وقد فهمت قريش وسائر العرب ما لم يفهمه متكلموا الجبرية من هذه الآية وأمثالها، وهو أنها وصف للعلة والمعلول، والسبب والمسبب، وسنته تعالى في دوام كل منهما بدوام الآخر، لا بذاته وكونه خلقياً لا مفر منه، بل المفر أمر اختياري ممكن، وهو ترك المعاند لعناده والمقلد لتقليده، إيثاراً للحق الذي يقوم عليه الدليل، فهموا هذا فاهتدى الأكثرون بالتدريج، وهلك الذين استحبوا العمى على الهدى في غزوة بدر وغيرها.