الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

لما ذكر تعالى عباده بفضله، وما يجب عليهم من شكره، وبكون أكثرهم لا يشكرونه كما يجب عليهم - عطف على ذلك تذكيره لهم بإحاطة علمه بشؤونهم وأعمالهم كلها، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وبكل ما في العوالم علويها وسفليها، ليحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم في ذكره وشكره وعبادته، وبدأ بخطاب أعظمهم شأناً في أعظم شؤونه فقال: { وَمَا تَكُونُ } أيها الرسول { فِي شَأْنٍ } أي أمر من أمورك المهمة الخاصة بك أو العامة التي تعالج بها أمر الأمة، في الدعوة إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، إنذاراً وتبشيراً، وتعليماً وعملاً:

{ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ } أي وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزل عليك، تعبداً به أو تبليغاً له، فمن الأولى للتعليل والثانية للتبعيض، أو الضمير في منه للكتاب لأن السياق بل السورة كلها فيه، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له - وقيل لله لذكره في الآية قبلها.

والتعبير في خطابه صلى الله عليه وسلم بالشأن وهو الأمر العظيم أو ذو البال يدل على أن جميع أموره وأعماله صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة حتى العادات منها، لأنه كان قدوة صالحة فيها كلها.

{ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } هذا خطاب عام للأمة كلها في كل شؤونها وأعمالها، بعد خطاب رأسها وسيدها في أخص شؤونه وأعلاها، فتذكرك الآية في أخصر الألفاظ وأقصرها بأفضل ما أتاك الله من هداية ونعمة، وتنتقل بك إلى كل عمل تعمله من شكر وكفر وإن كان كمثقال ذرة، فإن مجيء (عمل) نكرة منفية يفيد العموم، ودخول (من) التبعيضية عليه يؤكد هذا العموم، فيشمل أدق الأعمال وأحقرها، وهو في معنى قوله تعالى:فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة: 7-8].

{ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً } أي رقباء مطلعين عليكم { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تخوضون وتندفعون فيه، فنحفظه لنجزيكم به، وأصل الإفاضة في الشيء أو من المكان الاندفاع فيه بقوة أو بكثرة كما تقدم في (أفضتم من عرفات) { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ } أي وما يبعد عنه ولا يغيب عن علمه ولا يخفى عليه، قرأ الجمهور يعزب بضم الزاي والكسائي بكسرها وهما لغتان فيها، وأصله من قولهم عزب الرجل يعزب بإبله، أي يبعد ويغيب في طلب الكلأ، العازب وهو ما يكون بفلاة بعيدة حيث لا زرع، ويقال رجل عزب بفتحتين أي منفرد، ومنه رجل وامرأة عزب أي منفرد لا زوج له أو لها، ويقال أمرأة عزبة، واختلف في أعزب وعزباء. ونفي عزوب الشيء عن الرب تعالى أخص وأبلغ من نفي الغيبة أو الخفاء عنه، كما أن الإفاضة في العمل أخص من إتيانه مطلقاً، وحكمة تخصيصها بالذكر دون اللفظ الأعم منها، هي أن ما يفيض فيه الإنسان مهتماً به مندفعاً فيه جدير بأن لا ينسى أو يغفل عن مراقبة ربه فيه واطلاعه عليه، فاللفظ يذكره به تذكيراً منبهاً مؤثراً، وكذلك لفظ (يعزب) الدال على الخفاء والبعد معاً، فكأنه يقول إن ما شأنه أن يبعد ويخفى عليكم من أعمالكم لا يغيب عن علم ربكم فإنه لا يعزب عنه.

السابقالتالي
2