هاتان الآيتان في إقامة الحجة على منكري الوحي من المشركين بفعل من أفعالهم لا ينكرونه ولا يجادلون فيه، تعزيزاً لما تقدم من أنواع الحجج العقلية على إثباته، ودفع شبهاتهم عليه، وهذه الحجة مبنية على قاعدة كون التشريع العملي في التحريم والتحليل هو حق الله تعالى وحده، وقاعدة كون الأصل في الأرزاق وسائر الأشياء التي ينتفع بها الخلق الإباحة، وقاعدة كون انتحال العبيد حق التشريع الخاص بربهم افتراء عليه وكفراً به، يستحق فاعلوه أشد عقابه، وهو يتضمن الشهادة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كونه مبلغاً لهذا القرآن عنه تعالى، مؤكداً لما تقدم من الحجج على صدقه، وعلى كون القرآن كلام الله المعجز لجميع خلقه. قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } أي أخبروني أيها الجاحدون للوحي والتشريع الإلهي { مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ } أي هذا الذي أفاضه الله عليكم من سماء فضله وإحسانه من رزق تعيشون به من نبات وحيوان، وكل عطاء منه تعالى يعبر عنه بالإنزال كقوله{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6] وقوله{ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25]، { فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } أي فترتب على إنزاله لمنفعتكم أن جعلتم بعضه حراماً وبعضه حلالاً، وقد تقدم تفصيل هذا في سورة الأنعام من قوله تعالى{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا } [الأنعام: 136] - إلى قوله -{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا } [الأنعام:150] الآيات وفي معناها قوله من سورة المائدة{ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [المائدة: 103] أي يفترون عليه بتحريم ما لم يحرمه، وقال هنا وهو المراد من الاستخبار. { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } هذا الاستفهام للتقرير ومدت همزته لدخولها على الف اسم الجلالة، أي أنه ليس لأحد حق أن يحرّم على الناس ويحل لهم إلا ربهم الله، فهل الله هو الذي أذن لكم بذلك بوحي أنزله إليكم؟ { أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } بزعمكم أنه حرمها عليكم؟ أي لا مندوحة لكم عن الإقرار بأحد الأمرين: إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحليل والتحريم، وهو اعتراف بالوحي وأنتم تنكرونه وتلحون وتلجون في الإنكار، وتزعمون أنه محال عليه تعالى أن يوحي إلى أحد من الناس، وإما الافتراء على الله؟ وهو الذي يلزمكم بإنكار الأول إذ لا واسطة بينهما، ويحتمل أن يكون الاستفهام للإنكار و أم متصلة، فيكون المعنى إن الله لم يأذن لكم، بل أنتم تفترون على الله تعالى، والغاية واحدة، وأصل الفري قطع الجلد لمصلحة والافتراء تكلفه وغلب في تعمد الكذب.