الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

هذه الآية للتذكير بمقدار ظلم المشركين لأنفسهم وخسارتهم لها في الآخرة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بالقرآن ووعيده لهم وغرورهم بدنياهم الحقيرة مصداقاً للآية التي قبلها، قال:

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } أي واذكر أيها الرسول لهم أو أنذرهم يوم يحشرهم الله - وهذه قراءة حمزة عن عاصم وقرأها الباقون (نحشرهم) بالنون أي نجمعهم ببعثهم بعد موتهم ونسوقهم إلى مواقف الحساب والجزاءكَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } [يونس: 45] أي كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة قليلة من النهار ريثما يعرف فيها بعضهم بعضاً كأولي القربى والجيران ثم زالت، فإن الساعة يضرب بها المثل في قلة المدة.

فالتشبيه بيان لحالهم في تذكرهم للدنيا.

يعني أن هذه الحياة الدنيا التي غرتهم بمتاعها الحقير الزائل قصيرة ستزول بعذابهم أو موتهم وسيقدرون يوم القيامة قصرها بساعة من النهار لا تسع أكثر من التعارف القليل، كما قال في آخر سورة الأحقافكَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [الأحقاف: 35] وفي سورة الروموَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } [الروم: 55] وفي معناها قوله تعالى في آخر النازعات عن الساعة:كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَٰهَا } [النازعات: 46].

وفي آيات أخرى أن أهل الموقف يختلفون في هذا التقدير أي بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك اليوم فإنه تعالى قال بعد آية سورة الروموَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [الروم: 56] وفي سورة المؤمنونقَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ ٱلْعَآدِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون: 112-114] وفي سورة طه يختلفون بين اليوم والعشر.

وقيل إن المعنى أنهم يتعارفون بينهم يوم يحشرون كأنهم لم يتفارقوا لقصر مدة الفراق، وثم أقوال أخرى في التشبيه يبطلها ما أوردنا من الآيات في شواهده.

{ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ } أي خسروا السعادة الأبدية إذ لم يستعدوا له بالإيمان وعمل الصالحات المزكية للنفس، المرقية للروح، بما تكون أهلاً لكرامته ومثوبته، ورضوانه الأكبر في جناته، فآثروا عليها حياة الدنيا القصيرة الحقيرة المنغصة بالأكدار، السريعة الزوال، التي يقدرونها يوم الحشر بساعة من نهار.

والجملة بيان مستأنف منه تعالى لخسران الذين كذبوا بلقاء الله من أهل مكة وغيرهم، وبذلك ذكرهم بصفتهم المقتضية له وهي التكذيب وعطف عليه { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } فيما اختاروه لأنفسهم من إيثار الخسيس الفاني، على النفيس الخالد الباقي.

أو هي معطوفة على جملة: " قد خسر " أي خسروا تجارتهم وأنفسهم، وما كانوا مهتدين إلى أسباب النجاة والربح من الأعمال الصالحة التي هي ثمرات الإيمان كما قالفَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16] وقد تقدم ذكر الذين لا يرجون لقاء الله تعالى في الآيات 7 و11 و15 من هذه السورة، وتقدم ذكر خسرانهم في سورة الأنعام (31).