الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }

هذه الآية بيان للركن الثاني من أركان الدين وهو البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال يقول تعالى: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } أي إلى ربكم دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعاً بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه، لا يتخلف منكم أحد { وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً } أي وعد الله هذا وعداً حقاً لا يخلف { إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } هذا بيان لمتعلق الوعد المؤكد مرتين بدليله، أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشأه عند التكوين ثم يعيده في نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه فالتعبير بفعل المستقبل (يبدأ) لتصوير الشأن، وهو يشمل الماضي والمستقبل، ولفظ الخلق عام يراد به الخاص أولاً وبالذات، بدليل ما قبله وما بعده من السياق، وقد أجمع علماء الكون الماديون منهم والروحيون على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية ما يرى منها بالأبصار والآلات المقربة للأبعاد وما لا يرى كلها قد وجدت بعد أن لم تكن، وإن كانوا لا يزالون يبحثون في نشأة تكوينها والقوة الأزلية المتصرفة في أصل مادتها، كما أنهم متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة معها في هذا النظام الشمسي الجامع لها، على أن أقرب الأسباب الموافقة لأصول العلم الثابتة أن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية فتبسها بساً، حتى تكون هباءً منبثاً، كما تشير إليه سورة القارعة والواقعة وغيرهما.

فأما بدؤه فقد حصل بالفعل، وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء يكون قادراً على الإعادة بالطريق الأولى، كما قال في سورة الروموَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27] الآية ومن المسائل المتفق عليها عند علماء الكون في هذا العصر - وهي تقرب إلى العقول عقيدة البعث - إن هذه الأجساد الحية ينحل منها في كل وقت ما يتبخر في الهواء وما يموت في داخل الجسم ثم يخرج منه، ويحل محل كل ما يزول ويندثر مواد حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان، فهو يزول في سنين قليلة ويتجدد غيره، فالبدء والإعادة في كل جسد دائماً ما دام حياً، وقد فصلنا مسألة البعث بالبيان العلمي في تفسير سورة الأعراف (ج8).

{ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ } هذا تعليل للإعادة، أي يعيده لأجل جزائهم، والقسط العدل وقال الراغب النصيب من العدل أي ليجزيهم بعدله وهو عبارة عن إعطاء كل عامل حقه من الثواب الذي جعله الله لعمله بمعنى أنه لا يظلم منه شيئاً كما قال في سورة الأنبياء:وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [الأنبياء: 47] الآية. ولا يمنع ذلك أن يزيدهم ويضاعف لهم كما وعد في آيات أخرى منها قولهفَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ }

السابقالتالي
2 3