الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

لما بيَّن عز وجل غرور المشركين الجاهلين بمتاع الحياة الدنيا قفى عليه ببيان ما يدعو إليه من سعادة الآخرة ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها فقال:

{ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ } الجملة عطف على محذوف يدل عليه السياق وقرينة المقابلة، أي ذاك الإيثار لمتاع الدنيا والإسراف والبغي فيه، هو ما يدعو إليه الشيطان، فيسوق متّبعيه إلى النار، دار الخزي والنكال، والله يدعو عباده إلى دار السلام وهي الجنّة، وفي المراد بالسلام الذي أضيفت إليه الدار وجوه يصح أن تراد كلها أولها: أنه السلامة من جميع الشوائب والمصائب والمعايب، والنقائص والأكدار، والعداوة والخصام الثاني: أنه تحية الله وملائكته لأهلها وتحية بعضهم لبعض الدالة على تحابّهم وتوادهم وقد تقدم شرحه قريباً. ثالثها: إن السلام من أسمائه عز وجل وأضيفت دار النعيم إليه تعظيماً لشأنها، وهو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل، ويدل على كمال التنزيه والسلامة من كل ما لا يليق برب العالمين الرحمن الرحيم، وفي بعض الأحاديث إضافة هذه الدار إلى ضمير الذات (داري).

{ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } عطف على ما قبله أي يدعو كل أحد إلى دخول دار السلام، ويهدي من يشاء إلى الطريق الموصل إليها من غير تعويق لأنه مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، وهو الإسلام عقائده وفضائله وعباداته وأحكامه، والهداية في الأصل الدلالة بلطف، وتكون بالتشريع وهو بيانه، وهي عامة، وبالتوفيق للسير عليه والاستقامة الموصلة إلى الغاية وهي خاصة بالمستعدِّين لذلك كما فصَّلناه في تفسير سورة الفاتحة، وهي المرادة هنا ولذلك قيدها بالمشيئة.

{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } هذا بيان لصفة الذين هداهم إلى صراط الإسلام، فوصلوا بالسير عليه إلى غايته وهي دار السلام، أي للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا المثوبة الحسنى أي التي تزيد في الحسن على إحسانهم وهي مضاعفتها بعشرة أمثالها أو أكثر، كما قال في سورة النجملِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } [النجم: 31] ولهم زيادة على هذه الحسنى، وهي فوق ما يستحقونه على أعمالهم بعد مضاعفتها التي هي من جزائها مهما تكن حسنة كما قالفَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [النساء: 173] وقد ورد في الأحاديث الكثيرة من الطرق العديدة أن هذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، وهو أعلى مراتب الكمال الروحاني الذي لا يصل إليه المتقون المحسنون العارفون إلا في الآخرة وقد فصَّلنا القول فيه في تفسير سورة الأعراف (ج9) بما يقرّبه من العقل والعلم العصري، ويدحض شبهات المعتزلة المنكرين له بزعمهم أنه محال عقلاً، وما هذا المحال إلا نظريات عقولهم التي تقيس عالم الغيب على عالم الشهادة، وقد ظهر في هذا العصر من علوم المادة ما لم يكن يقبله عقل من العقول المقيدة بتلك النظريات المتولدة من الفلسفة اليونانية والكلام الجهمي، فكيف يكون عالم الغيب الإلهي مقيداً بها؟!

السابقالتالي
2