الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

لما كان سبب ما ذكر من البغي في الأرض وإفساد العمران هو الإفراط في حب التمتع بما في الدنيا من الزينة واللذات ضرب لها مثلاً بليغاً يصرف العاقل عن الغرور بها، ويهديه إلى القصد والاعتدال فيها، واجتناب التوسل إليها بالبغي والظلم، وحب العلو والفساد في الأرض، وهو عبارة عن تشبيه زينتها ونعيمها في افتتان الناس بهما وسرعة زوالهما بعد تمكنهم من الاستمتاع بها، بحال الأرض يسوق الله إليها المطر فتنبت أنواع النبات الذي يسر الناظرين ببهجته، فلا يلبث أن تنزل به جائحة تحسه وتستأصله قبيل بدو صلاحه والانتفاع به، قال عز وجل:

{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي لا شبه لها في صورتها ومآلها إلا ماء المطر في جملة حاله الآتية { فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } أي فأنبتت الأرض أزواجاً شتى من النبات تشابكت بسببه واختلط بعضها ببعض في تجاورها وتقاربها، على كثرتها واختلاف أنواعها { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ } بيان لأزواج النبات وكونها شتى كافية للناس في أقواتهم ومراعي أنعامهم، وكل مرامي آمالهم { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ } أي حتى كانت الأرض بها في خضرة زروعها السندسية، وألوان أزهارها الربيعية، كالعروس إذا أخذت حليّها من الذهب والجواهر، وحللها من الحرير الملوّن بالألوان المختلفة ذات البهجة، فتحلَّت وازَّينت بها استعداداً للقاء الزوج - ولا تغفل عن حسن الاستعارة في أخذ الأرض زينتها، حتى كان استكمال جمالها، كأنه فعل عاقل حريص على منتهى الإبداع والإتقان فيهاصُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [النمل: 88].

{ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } متمكنون من التمتع بثمراتها، وادخار غلاّتها، { أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً } أي نزل بها في هذا الحال أمرنا المقدر لإهلاكها بجائحة سماوية ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم غافلون { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } أي كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها، فالحصيد يشبه به الهالك من الأحياء كما قال في أهل القرية الظالمة المهلكةجَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } [الأنبياء: 15] ويشبه هذا الهلاك في نزوله في وقت لا يتوقعه فيه أهله قولهأَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَٰتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأعراف: 97-98].

{ كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } أي هلكت فجأة فلم يبق من زروعها شيء، حتى كأنها لم تنبت ولم تمكث قائمة نضرة بالأمس، يقال غني في المكان إذا أقام به طويلاً كأنه استغنى به عن غيره، قال تعالى في الأقوام الهالكين في أرضهمكَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } [الأعراف: 92] والأمس الوقت الماضي، وقال الزمخشري في الكشاف: والأمس مثل في الوقت القريب كأنه قيل: كأن لم تغن آنفاً اهـ. وأما أمس غير معرف فهو اسم لليوم الذي قبل يومك.

السابقالتالي
2