الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } * { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

لما كان الجواب عن اقتراحهم الآية الكونية للدلالة على النبوة يتضمن بمعونة ما يفصله من الآيات إن أولئك المشركين المعاندين لا يقتنعون بالآيات، وأنهم إذا رأوها بأعينهم يكابرون حسهم ولا يؤمنون، ضرب الله تعالى مثلاً له في آياته الكونية الدالة على وحدانيته في أفعاله وحكمه فيها، وما لهؤلاء المشركين المعاندين من المكر فيها وكونها لا تزيدهم إلا ضلالاً فقال:

{ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } هذه الشرطية منتظمة مع أختيها في الآيتين 12 و15 في نسق واحد.

والذوق في أصل اللغة إدراك الطعم بالفم، والمدرك له عصب خاص في اللسان، واستعمل مجازاً في إدراك غيره من الملائمات كالرحمة والنعمة، والمؤلمات كالعذاب والنقمة، والضرّاء الحالة من الضر المقابل للنفع، ويقابلها السرّاء من السرور، أي وإذا كشفنا ضرّاء مسّ الناس ألمها، برحمة منا أذقناهم لذتها على أتمّها، لأن الشعور بها عقب زوال ضدها يكون أتم وأكمل.

{ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا } إذا هذه تسمى الفجائية والجملة جواب للشرط أي ما كان منهم إلا أنهم بادروا إلى المكر، وأسرعوا بالمفاجأة به في مقام الشكر، فإذا كانت الرحمة مطراً أحيا الأرض، وأنبت الزرع، ودرَّ بهِ الضرع، بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل، قالوا مطرنا بالأنواء، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزتهم أسبابها، عللوها بالمصادفات، وإذا كان سببها دعاء نبيهم أنكروا إكرام الله له وتأييده بها، كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم رفع عنهم بدعائه فما زادهم ذلك إلا كفراً وجحوداً ومكراً وكنوداً.

أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قريشاً لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى:فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الدخان: 10-11] فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يا رسول الله استق لمضر فإنها قد هلكت. فقال: " مضر؟ " متعجباً وفي رواية فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله، فدعا لهم فكشف الله عنهم العذاب ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول الذي تقدم فيه قوله تعالى:وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال: 30] الآية، وقد بينا في تفسيرها وتفسير آية [الأعراف: 99] وآية [آل عمران: 54] معنى المكر في اللغة وكونه حسناً وسيئاً ومعنى إسناده إلى الله تعالى.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10