الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } * { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

هاتان الآيتان في بيان شأن من شؤون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر، ونفع وضر، وشعورهم فيه بالحاجة إلى الله تعالى واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها، واستعجالهم الأمور قبل أوانها، وهو تعريض بالمشركين وحجة على ما يأتون من شرك، وما ينكرون من أمر البعث، متمم لما قبله ولذلك عطفه عليه.

تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المضروب أو المقدر له أو الموعود به، والاستعجال به طلب التعجيل، والعجل من غرائز الإنسان القابلة للتأديب والتثقيف، كي لا تطغى به فتورده الموارد. قال تعالى:وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [الاسراء: 11] وقال تعالى:خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } [الأنبياء: 37] فأما استعجاله بالخير والحسنة فلشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها، وأما استعجاله بالضر والسيئة فلا يكون لذاته، بل لسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز، وقلما يكون مقصوداً بنفسه إلا للنجاة مما هو شر منه، كما يفعل اليائسون من الحياة، أو النجاة من ذل وخزي أو ألم لا يطاق، إذ يتقحمون المهالك أو يبخعون أنفسهم انتحاراً.

قال تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ } الذي يستعجلونه به كاستعجال مشركي مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب الذي أنذرهم نزوله بهم إجمالاً، بما قصه عليهم في هذه السورة وغيرها من سنة الله تعالى في أقوام الرسل المعاندين وهو عذاب الاستئصال، وفيما دونه من عذاب الدنيا كخزيهم والتنكيل بهم ونصره عليهم، أو قيام الساعة، وعذاب الآخرة. وقد حكى الله تعالى كل ذلك عنهم كقوله:وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ } [الرعد: 6] الآيةوَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } [العنكبوت: 53] وتقدم قوله:وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32] وقال في الساعة:يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ٱلْحَقُّ } [الشورى: 18] وفي العذابيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 54] وكل هذه الضروب من الاستعجال كانوا يقصدون بها تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغة في التكذيب، واستهزاء بالوعيد، وقوله:

{ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ } معناه كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه لذاته بدعاء الله تعالى أو بمحاولة الأسباب التي يظنون أنها قد تأتي به قبل أوانه { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } ، قرأ ابن عامر ويعقوب الجملة بالبناء للفاعل أي لقضى الله إليهم أجلهم، وقرأها الجمهور بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل وقضاء الأجل إليهم انتهاؤه إليهم بإهلاكهم قبل وقته الطبيعي كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم. ولكن الله تعالى أرحم بهم من أنفسهم، وقد بعث رسوله محمداً خاتم النبيين رحمة للعالمين، بالهداية الدائمة إلى يوم الدين، وقضى بأن يؤمن به قومه من العرب، ويحملوا دينه إلى جميع أمم العجم، وأن يعاقب المعاندين من قومه في الدنيا بما يكون تأديباً لسائرهم، بما بينه بقوله:

السابقالتالي
2 3