الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } * { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ } * { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } * { لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى } * { ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } * { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } * { ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } * { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } * { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } * { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ }

{ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } استئناف مقرر لما قبله. أي علينا بموجب قضائنا المبنيّ على الحكم البالغة، حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض، أن نبين لهم طريق الهدى ليجتنبوا مواقع الردى. وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والتمكين من الاستدلال والاستبصار، بخلق العقل وهبة الاختيار.

{ وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ } أي: ملكاً وخلقاً. فلا يضرنا توليكم عن الهدى. وذلك لغناه تعالى المطلق، وتفرده بملك ما في الدارين، وكونه في قبضة تصرفه لا يحول بينه وبينه أحد، ولا يحصله أحد حتى يضر عدم اهتدائه أو ينفع اهتداؤه. وفيه إشارة إلى تناهي عظمته وتكامل قهره وجبروته. وإن من كان كذلك، فجدير أن يبادر لطاعته ويحذر من معصيته. ولذا رتب عليه قوله: { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } أي: تتلظى وتتوهج. وهي نار الآخرة { لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِي كَذَّبَ } أي: بالحق الذي جاءه { وَتَوَلَّىٰ } أي: عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وبهر نورها، عناداً وكفراً.

{ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } أي: ينفق ماله في سبيل الخير، يتزكى عن رجس البخل ودنس الإمساك { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } أي: من يد يكافئه عليها. أي لا يؤتيه للمكافأة والمعاوضة { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } أي: لكن يؤتيه ابتغاء وجه ربه وطلب مرضاته. لا لغرض آخر من مكافأة أو محمدة أو سمعة. وفي حصر { ٱلأَتْقَى } بالمنقق، على الشريطة المذكورة، عناية عظيمة به، وترغيب شديد في اللحاق به، كيف لا؟ وبالمال قوام الأعمال، ورفع مباني الرشاد وهدم صروح الفساد.

وقوله تعالى: { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } قال ابن جرير: أي: ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضاً مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى. ففيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها، إذ به يتحقق الرضا. وهذا على، إن ضمير { يَرْضَىٰ } لـ (لأتقى) لا للرب. قال الشهاب: وهو الأنسب بالسياق واتساق الضمائر.

وذهب بعضهم إلى الثاني، ومنهم الإمام، قال: أي: ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى. الطالب بصفة رضاه (ثم قال): والتعبير بـ (سوف) لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال؛ لأن يبلغ العبد درجة الرضا الإلهيّ.

تنبيه

قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها. فإن اللفظ لفظ العموم وهو قوله تعالى: { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ } [الليل: 17 - 19] ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة.

السابقالتالي
2