الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ }

{ فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } المخلفون: هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم في التخلف كما قلنا، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك. وإيثار { ٱلْمُخَلَّفُونَ } على (المتخلفون)، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج، فغلب على غيرهم، أو المراد من خلفهم كسلُهم أو نفاقهم، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك، وحملهم عليه. وقوله تعالى: { بِمَقْعَدِهِمْ } متعلق بـ (فرح)، أي بقعودهم عن غزوة تبوك. فـ (مقعد) على هذا، مصدر ميميّ، أو هو اسم مكان، والمراد به المدينة. وقوله: { خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } أي: خلفه، وبعد خروجه، حيث خرج ولم يخرجوا. فـ { خِلافَ } ظرف بمعنى خلف وبعد. يقال: فلان أقام خلاف فلان الحيّ أي بعدهم، ظعنوا ولم يظعن، ويؤيده قراءة من قرأ (خلف رسول الله)، فانتصابه على أنه ظرف لـ (مقعدهم)، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك.

قال الشهاب: واستعمال { خِلاَفَ } بمعنى (خلف)، لأن جهة الخلف خلاف الأمام، وجوز أن يكون (الخلاف) بمعنى (المخالفة)، فهو مصدر (خالف)، كالقتال، ويعضده قراءة من قرأ (خُلف رسول الله) بضم الخاء، وفي نصبه وجهان:

الأول: أنه مفعول له، والعامل إما (فرح) أي: فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود، وإما (مقعدهم) أي: فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم، فهو علة إما للفرح أو للقعود. والثاني: أنه حال، والعامل أحد المذكورين، أي: فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود، أو فرحوا بالقعود مخالفين له.

وقوله تعالى: { وَكَرِهُوۤاْ } الخ أي: لما في قلوبهم من مرض النفاق.

قال أبو السعود: وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال: (وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو) إيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله، مع كونه من أجلّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون، قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الزمخشريّ: في قوله تعالى: { وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } تعريض بالمؤمنين، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض (أي الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب) وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان، وداعي الإيقان.

قال الشهاب: ووجه التعريض ظاهر؛ لأن المراد كرهوه، لا كالمؤمنين الذين أحبوه.

وقوله تعالى: { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ } أي: قالوا لإخوانهم: لا تنفروا إلى الجهاد في الحر، فإنه لا يستطاع شدته. وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، وذلك تثبيتاً لهم على التخلف، وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد، أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد، ونهياً عن المعروف، وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود.

السابقالتالي
2