الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ } * { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ }

{ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المنافقين بالتخلف حين اعتلّوا بعللهم { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرّين على القعود عن الغزو. ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله، بقوله سبحانه:

{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } أي: لمنع إيمانهم به، من مخالفته، مع القدرة { وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } لمنع إيمانهم به من ترك تعويض الثواب والحياة الأبديين إذا أُمِروا { أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } أي: لأنهم يودون الجهاد بها قربة، فيبذلونها في سبيله: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ } أي: فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم. ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء، وعِدَةٌ لهم بأجزل الثواب.

{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي: في ترك الجهاد بهما: { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته، وهم المنافقون، ولذا قال: { وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: فيما تدعوهم إليه، أي: رسخ فيها الريب { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي: ليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هلكى، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.

تنبيهات

الأول: اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو، دون ما يوهم العتاب، من مراعاة جانبه عليه الصلاة والسلام، وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة - ما لا يخفى على أولي الألباب.

قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف: بدأ بالعفو قبل ذلك المعفوّ.

قال مكّي: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ }: افتتاح كلام مثل (أصلحك الله وأعزك).

وقال الداوديّ: إنها تكرمة.

أقول: ويؤيد ذلك قول عليّ بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حُرمةٌ   تَعُوذُ بعفوك إن أُبْعَدَا
ألم تر عبداً عدا طورَهُ   ومولىً عفا ورشيداً هدَى
أقلني أقالك من لم يَزَلْ   يقيك ويصرف عنك الردى
وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب - غير صحيح. فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه.

قال الشهاب: وهو يستعمل حيث لا ذنب، كما تقول لمن تعظمه. عفا الله عنك، ما صنعت في أمري؟ وفي الحديث: " عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له ".

وقال السخاونديّ: هو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولولا العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب.

وقال القاضي عياض في (الشفا): وأما قوله تعالى: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } فأمر لم يتقدم للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي، فيعدّ معصية. ولا عدّه الله عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلّطوا من ذهب إلى ذلك.

السابقالتالي
2 3