الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } حالان من ضمير المخاطبين، أي: على أي حال كنتم خفافاً في النفور لنشاطكم له، وثقالاً عنه، لمشقته عليكم، أو خفافاً لقلة عيالكم وأذيالكم، وثقالاً لكثرتها، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه، أو ركباناً ومشاة، أو شباباً وشيوخاً أو مهازيل وسماناً، واللفظ الكريم يعم ذلك كله، والمراد حال سهولة النَّفْر وحال صعوبته.

وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط، ويستشهدون بهذه الآية.

ولما كانت البعوث إلى الشام، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى على هذه الآية، فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بَنيَّ! فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك فقال: ما سمع عذر أحد، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل.

وكان أبو أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه يقرأ هذه الآية، ويقول: فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاماً واحداً.

وقال أبو راشد الحبرانيّ: وافيت المقداد بن الأسود، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فَصَلَ عنها يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال: أتت علينا سورة البعوث: { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً }.

وعن حبّان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عَمْرو - وكان والياً على حمص - فرأيت شيخاً كبيراً همّاً، قد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم، لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه فقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، أَلا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه. وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عزَّ وجلَّ - روى ذلك كله ابن جرير.

فرحم الله تلك الأنفس الزكية، وحيّاها من بواسل، باعت أرواحها في مرضاة ربها وإعلاء كلمته، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية.

ثم رغّب تعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته، ومرضاة رسوله، فقال: { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ما في إسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد، للإيذان ببعد منزلته في الشرف، والمراد بكونه خيراً، أنه خير في نفسه، أو خير من الدعة، والتمتع بالأموال.

تنبيه

قال الحاكم: الجهاد بالمال ضروب: منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد، ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه.

السابقالتالي
2