الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ } أي: بالخروج معه إلى تبوك { فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني: كفار مكة حين مكروا به، فصاروا سبب خروجه، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ } حال من ضميره صلى الله عليه وسلم أي أحد اثنين { إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ } بدل من { إِذْ أَخْرَجَهُ } بدل البعض، إذ المراد به زمان متسع. والغار نقب في أعلى ثور، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثاً، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما، ثم يسيرا إلى المدينة، { إِذْ يَقُولُ } بدل ثان، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم { لِصَاحِبِهِ } أي: أبي بكر: { لاَ تَحْزَنْ } وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما، فيخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أذى، وطفق يجزع لذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } أي: بالنصرة والحفظ.

روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال: " نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين اللهُ ثالثهما " { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ } أي: أَمَنَتَه التي تسكن عندها القلوب { عَلَيْهِ } أي: على النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة، أنزلهم ليحرسوه في الغار، أو ليعينوه على العدوّ يوم بدر والأحزاب وحنين، فتكون الجملة معطوفة على قوله: { نَصَرَهُ ٱللَّهُ }. وقوّى أبو السعود الوجه الثاني، بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم.

قلت: لا إباءة؛ لأن هذا وصف لازم لإمداد القوة الغيبية في كل حال، وفي الثاني تفكيك في الأسلوب لبعد المتعاطفيْن، فافهم. والله أعلم.

{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ } أي: المغلوبة المقهورة، و (الكلمة) الشرك، أو دعوة الكفر، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك، أو هي بمعنى الكلام مطلقاً على أنها دعوة الكفر { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا } يعني: التوحيد، أو دعوة الإسلام كما تقدم، أي: التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة. { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ } بالرفع على الابتداء و { هِيَ ٱلْعُلْيَا } مبتدأ وخبر. أو تكون { هِيَ } فصلاً. وقرئ بالنصب أي: وجعل كلمة الله، والأول أوجه وأبلغ، لأن الجملة الإسمية تدل على الدوام والثبوت، وإن الجعل لم يتطرق لها لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها، وفي إضافة (الكلمة) إلى (الله) إعلاء لمكانها، وتنويه لشأنها { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } أي: غالب على ما أراد: { حَكِيمٌ } في حكمه وتدبيره.

السابقالتالي
2