الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } * { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } أي: تثاقلتم وتباطأتم. والاستفهام في { مَا لَكُمْ } فيه معنى الإنكار والتوبيخ. وقوله: { إِلَى ٱلأَرْضِ } متعلق بـ { ٱثَّاقَلْتُمْ } على تضمينه معنى الميل والإخلاد، أي: اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل، وكرهتم مشاقّ الغزو المستتبعة للراحة الخالدة، كقوله تعالى:أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } [الأعراف: 176]. أو مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف، استنفروا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ، وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها، مع بُعد الشقة، وكثرة العدوّ، فشق عليهم.

وقوله تعالى: { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي: الحقيرة الفانية { مِنَ ٱلآخِرَةِ } أي: بدل الآخرة ونعيمها الدائم { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أظهر في مقام الإضمار، لزيادة التقرير، أي: فما التمتع بلذائذها { فِي ٱلآخِرَةِ } أي: في جنب الآخرة أي: إذا قيست إليها، { فِي } هذه تسمى (في القياسية)؛ لأن المقيس يوضع بجنب ما يقاس به { إِلاَّ قَلِيلٌ } أي: مستحقر لا يؤبه له.

روى الإمام أحمد ومسلم عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع " - وأشار بالسبابة.

ثم توعّد تعالى من لم ينفر إلى الغزو، بقوله سبحانه:

{ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } أي: لنصرة نبيه، وإقامة دينه، { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } لأنه الغنيّ عن العالمين، أي: وإنما تضرون أنفسكم. وقيل: الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: ولا تضروه؛ لأن الله وعده النصر، وَوَعْدُهُ كائن لا محالة. { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم، وفي هذا التوعد، على من يتخلف عن الغزو، من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره.

تنبيه

قال بعضهم: ثمرة الآية لزوم إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد، وكذا يأتي مثله في دعاء الأئمة، ويأتي، مثل الجهاد، الدعاء إلى سائر الواجبات، وفي ذلك تأكيد من وجوه:

الأول: ما ذكره من التوبيخ.

الثاني: قوله تعالى: { ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } وأن الميل إلى المنافع والدعة واللذات لا يكون رخصة في ذلك.

الثالث: في قوله تعالى: { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } فهذا زجر.

الرابع: قوله تعالى: { فَمَا مَتَاعُ... } الآية - وهذا تخسيس لرأيهم.

الخامس: ما عقب من الوعيد بقوله: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ }.

السادس: ما بالغ فيه بقوله: { عَذَاباً أَلِيماً }.

السابع: قوله: { وَيَسْتَبْدِلْ... } الآية.

الثامن: قوله: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ففيه تهديد.