الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

{ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ } أي: عددها { عِندَ ٱللَّهِ } أي: في حكمه { ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } وهي القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } أي: في اللوح المحفوظ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه. وقوله: { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } متعلق بما في الجار والمجرور من معنى الإستقرار. أراد بـ (الكتاب) على أنه مصدر، والمعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر، منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة. أفاده أبو السعود.

{ مِنْهَآ } أي: من تلك الشهور الاثني عشر { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سَرْدٌ: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب { ذٰلِكَ } أي: تحريم الأشهر الأربعة المذكورة { ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } أي: المستقيم { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي: بهتك حرمتها بالقتال فيها. وقال ابن إسحاق: أي: لا تجعلوا حرامها حلالاً، ولا حلالها حراماً، كما فعل أهل الشرك { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } أي: جميعاً، { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي: بالنصر والإمداد.

ثم بيّن تعالى ثمرة هذه المقدمة، وهو تحريم تغيير ما عيّن تحريمه من الأشهر الحرم، وإيجاب الحذو بها على ما سبق في كتابه، ناعياً على المشركين كفرهم، بإهمالهم ذلك، بقوله سبحانه:

{ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ } أن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر. مصدر (نسأه) إذا أخره { زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } لأنه تحليل ما حرمه الله، وتحريم ما حلله، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي: بالله عن أحكامه إذا يجمعون بين الحلّ والحرمة في شهر واحد { يُحِلُّونَهُ عَاماً } أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة، ويحرمون مكانه شهراً آخر. { وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } أي: يتركونه على حرمته القديمة، ويحافظون عليها سنة أخرى، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، والتعبير عن ذلك بالتحريم، باعتبار إحلالهم له في العام الماضي، والجملتان تفسير للضلال، أو حال.

قال الزمخشريّ: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام، وهم محاربون، شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } أي: ليوافقوا العدة التي هي الأربعة، ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربا زادوا في عدد الشهور، فيجعلونها ثلاثة عشر، أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عز وعلا: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } يعني: من غير زيادة زادوها { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } بتركهم التخصيص للأشهر بعينها { زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ } فاعتقدوا قبيحها حسناً { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }.

اعلم أن في هاتين الآيتين مسائل

الأولى: أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية، وهي شهور الأهلة، دون الشهور الشمسية.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7