الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } * { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ } أي: بالطريق المنكر من الرّشا في الأحكام والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك. و(الأكل) مجاز عن الأخذ، بعلاقة العلّية والمعلولية؛ لأنه الغرض الأعظم منه، وفيه من التقبيح لحالهم، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: عن دين الإسلام وحكمه، واتباع الدلائل، إلى ما يهوون، أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل، إلى ما افتروه وحرفوه.

ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه، على أمر الله، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه: { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } أي: يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: الذي هو الزكاة، { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }.

{ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا } أي: يوقد عليها { فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ } أي: ويقال لهم، ضمّاً إلى ما هم فيه، هذا ما كنزتم { لأَنْفُسِكُمْ } أي: لتتلذذوا به، فكان سبب تعذيبها { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي: وباله، وهو ألمه، وشدته بالكيّ.

وفي هذه الآية فوائد

الأولى: قال بعضهم: في قوله تعالى: { لَيَأْكُلُونَ } دلالة على تحريم الرشا على الباطل، وقد ورد: " لعن الله الراشي والمرتشي " ، وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع للدافع ليتوصل إلى حقه خلاف. رجح الجواز ليتوصل إلى الحق، كالاستفداء. قال الحاكم: يدخل في تحريم الرشا، الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه، وكل من حرّف شيئاً لغرض الدنيا. انتهى.

الثانية: في الآية: كما قال ابن كثير: تحذير من علماء السوء، وعبّاد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح: " " لتركبن سَنَن من قبلكم حَذْوَ القذََّة بالقذَّةِ " قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: " فَمَنْ؟ " ، وفي رواية: " فارس والروم؟ قال: " ومَن الناس إلا هؤلاء؟ " ثم أنشد لابن المبارك:
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملو   كُ، وأحبارُ سوء ورهبانُهَا
الثالثة: قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ } مبتدأ، والخبر { يَكْنِزُونَ } أو منصوب تقديره: بشر الذين يكنزون. والتعريف في الموصول للعهد. والمعهود، إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون الكانزون، لجري ذكر الفريقين، وإما ما هو أعم. والأول رُوِي عن معاوية، والثاني عن السدّيّ، والثالث عن ابن عباس وأبي ذرّ.

قال الزمخشريّ: يجوز أن يكون الموصول إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً، ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6