الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }

{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } قال الزمخشري: يعني: تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي، وسخرية به، قائلين: هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه، ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذاً. يقولون: هل يراكم من أحد { ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ } أي: عن محفل الوحي خوفاً من الافتضاح { صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } أي: عن الإيمان حسب انصرافهم عن حضرته عليه السلام. والجملة إخبارية أو دعائية { بِأَنَّهُمْ } أي: بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي: لا يتدبرون أمر الله حتى يفقهوا.

تنبيهات

الأول: دلت الآية المتقدمة على زيادة الإيمان بما ذكر، وسواء قلنا بدخول الأعمال في مسمى الإيمان، وهو الحق، أو لا، وأنه مجرد التصديق القلبيّ، فالزيادة مما يقبلها قطعاً، والأول بديهي، والثاني مثله، إذ ليس إيمان الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم، كإيمان غيرهم وهذا مما لا يُرتاب فيه.

الثاني: ذكر تعالى من مخازي المنافقين نوعين: عدم اعتبارهم بالابتلاء، وتمكن الكفر منهم، وازدياده في وقت يقتضي زيادة الإيمان، وهو تكرير التنزيل. ولما كان القصد بيان إصرارهم على كفرهم، وعدم نفع العظات فيهم، ختم مخازيهم بذلك، لأنه نتيجتها، وقدم عليه ما يصيبهم من الابتلاء؛ لأن فيه رادعاً عظيماً لو تذكروا.

وقد تلطف القاشانيّ في إيضاح ذلك، وجوّد التقرير فيه، وعبارته: البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه، وقد ورد في الحديث: " البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه " ، فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد، يكسر سورة نفسه وقواها، ويقمع صفاتها وهواها، فيلين القلب، ويبرز من حجابها، وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها، وينقبض منها ويشمئز، فيتوجه إلى الله. وأقل درجاته أنه إذا اطّلع على أن لا مفر منه إلا إليه، ولم يجد مهرباً ومحيصاً من البلاء سواه، تضرع إليه وتذلل بين يديه، كما قال:وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [لقمان: 32]،وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [يونس: 12]، وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه، فليغتنم وقته وليتعوّذ، وليتخذ ملكة يعود إليها أبداً حتى يستقر التيقظ والتذكر، وتتسهل التوبة والحضور، فلا يتعود الغفلة عند الخلاص فتغلب، وتتقوى النفس عند الأمان، وينسبل الحجاب أغلظ مما كان، كما قال:فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت: 65]فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ } [يونس: 12]. انتهى.

الثالث: قال السيوطي في (الإكليل): أخذ ابن عباس من قوله: { ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ } كراهية أن يقال: انصرفت من الصلاة - أخرجه ابن أبي حاتم - ومرجع هذا إلى أدب لفظيّ، باجتناب ما يوهم، أو ما نُعِيَ به على العصاة.

وقد عقد الإمام ابن القيم في (زاد المعاد): فصلاً في هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق، واختيار الألفاظ، فليراجع.

ثم بيّن تعالى ما امتن به على المؤمنين من بعثة خاتم النبيين بقوله:

{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ... }.