الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ }

{ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك، مؤمنهم ومنافقهم، والمنفق لها طوعاً أو كرهاً، والمرغّب فيها أو عنها، والمتخلف نفاقاً أو كسلاً، وأنبأ عما لحق كلاًّ من الوعد والوعيد، وميز الصادقين من غيرهم - ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلاً للدعة وهم صادقون في إيمانهم، ثم ندموا فتابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم، فقبلها منهم، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية، وصدرها بتوبته على رسوله، وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم، بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والإستغفار، حتى النبيّ والمهاجرون والأنصار، كلّ على حسبه، وإبانةً لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين، ليظهر فضيلة الصلاح. والوصف للمدح، كما يكون لمدح الموصوف، يكون لمدح الصفة، وهذا من لطائف البلاغة، وهو كما قال حسان رضي الله عنه:
مَا إن مَدَحْتُ مُحَمداً بمَقالتي   لَكِن مَدَحتُ مَقَالتي بِمُحمَّدٍ
وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار.

قال الحاكم: ودلت على فضل عثمان؛ لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم، ووصفهم باتباعه، فوجب القطع بموالاتهم.

وقوله تعالى: { فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } أي: في وقتها، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم، والعسرة حالهم في غزوة تبوك، كانوا في عسرة من الظَّهر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة من الزاد، حتى إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها الآخر، ثم يشرب عليها. وفي عسرة من شدة لَهَبان الحرّ ومن الجدب، وفي عسرة من الماء، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره، فعصر فرثه فشربه، وجعل ما بقي على كبده.

وقد حكى القالي في (أماليه): أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها، سقوا الإبل على أتمّ أظمائها، ثم قطعوا مشافرها، أو خزموها لئلا ترعى، فإذا احتاجوا إلى الماء، افتظوا كروشها، فشربوا ثميلها، وهو كثير في الأشعار. كذا في (العناية).

ونقل الرازي عن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المراد بـ { سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول، وعلى المؤمنين، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها. وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه:وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [الأحزاب: 10]، وقوله:وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8