الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } * { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } * { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

{ وَٱلَّذِينَ } أي: ومن المنافقين الذين { ٱتَّخَذُواْ } أي: بَنَوْا: { مَسْجِداً ضِرَاراً } أي: مضارّ لأهل مسجد قباء { وَكُفْراً } أي: تقوية للكفر الذي يضمرونه { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعاً واحداً يؤدون أجلّ الأعمال، وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام بجمع قلوب أهله على الخيرات، ورفع الاختلاف من بينهم { وَإِرْصَاداً } أي: إعداداً وترقباً وانتظاراً { لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } أي: كفر بالله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم (فاسقاً). وكانوا أعدوه له ليصلي فيه، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما سنفصله - { وَلَيَحْلِفُنَّ } أي: بعد ظهور نواياهم ومقاصدهم السيئة { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } أي: ما أردنا، ببناء المسجد، إلا الخصلة الحسنى، أو الإرادة الحسنى، وهي الصلاة، وذكر الله، والتوسعة على المصلين { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي: في حلفهم.

{ لاَ تَقُمْ فِيهِ } أي: لا تصلّ في مسجد الشقاق { أَبَداً } أي: في وقت من الأوقات، لكونه موضع غضب الله، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه كما يأتي. وإطلاق (القائم) على المصلّي والمتهجد معروف، كما في قولهم: فلان يقوم الليل، وفي الحديث: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً " { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } أي: بنيت قواعده على طاعة الله وذكره، وقصد التحفظ من معاصي الله، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهو مسجد قباء { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أي: من أيام وجوده { أَحَقُّ أَن تَقُومَ } أي: تصلي { فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } أي: المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة.

ثم أشار إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار بقوله:

{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ } أي: مخافة منه { وَرِضْوَانٍ } أي: طلب رضوان منه { خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا } أي: طرف { جُرُفٍ } بضم الراء وسكونها أي: مهواة { هَارٍ } أي: مشرف على السقوط { فَٱنْهَارَ بِهِ } أي: سقط معه { فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }.

{ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي: لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم، لا يزول وَسْمُهُ عن قلوبهم، ولا يضمحلّ أثره { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي: قِطَعاً، وتتفرق أجزاءًَ، فحينئذ يسلون عنه. وأما ما دامت سالمة مجتمعة، فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت، أو بعذاب النار. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } أي: بنياتهم { حَكِيمٌ } أي: فيما أمر بهدم بنيانهم، حفظاً للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7